بعد أن نأى بنفسه عن موجة النشاط التسليفي المصرف الصناعي يترقب تعديل التشريعات الكفيلة بتفعيل مسار التمويل لدعم الإنتاج وتحصيل كامل “المتعثر”..!
يبدو أن الوقت لم يعُد يسمح بالتغنّي بمبدأ دعم الإنتاج والعملية الإنتاجية وتحسين واقع المنشآت الصناعية بغية النهوض بواقع الاقتصاد الوطني، طبعاً “التغني الإعلامي” بهذا المبدأ الذي لاشك بقدراته في حال تطبيقه عملياً على أرض الواقع، إلا أن اعتماده كنقطة البداية للتحسّن دون التوجه مباشرة إلى معالجة ما يعيق تنفيذه، يحول دون معالجة المسألة إذا لم يتم اتخاذ إجراءات جادة تضمن البدء بإنعاش هذا المسار، الذي على ما يبدو ما زال يشوبه الكثير من النقاط الأساسية المغفلة عمداً ربما أو عن غير عمد، ولا سيما أن المعني بعملية إعادة الإنعاش له هو المصارف بشكل عام والمصرف الصناعي على وجه الخصوص، الذي يبدو من خلال متابعتنا أنه لا يزال مقيّداً ومتخوّفاً لجهة ركوب موجة النشاط التسليفي -إن صح التعبير- التي اجتاحت المصارف الأخرى للتغلب على ظاهرة السيولة المرتفعة وإحجام المقترضين عنها بقروض ظاهرها تسهيلات ومرونة في الإقراض، وباطنها انحراف بوصلة التمويل عن الغايات المنشودة “قرض الإنمائي أنموذجاً” وتعثر مؤجل لا نتمنى وقوعه لاشتمالها على مخاطر عالية محتملة.
ردّ الاتهام
لا نظلم المصرف الصناعي في حال اتهامه بالتقصير لجهة دعم وتمويل المنشآت الصناعية المتضررة أو قيد التأسيس، فطالما شهدنا مطالبات الصناعيين بضرورة تنشيط عملياته الإقراضية مرفقة بجملة من التسهيلات والمرونة في تدفق التمويل في شرايين منشآتهم المتضررة والمتوقفة عن الإنتاج وحتى المتعثرة في تسديد مستحقات المصرف المالية سواء بدعم الفائدة أو جدولة الديون وتسوية أوضاعهم لمعاودة نشاطاتهم الصناعية والإنتاجية، ولكن المصرف ردّ الاتهام إلى تعثر صدور عدة قوانين مهمة تعتبر أسّ آلية المعالجة السليمة الضامنة لبداية صحيحة تعيد الثقة بين المتعاملين والمصرف من جهة وتقلّص حجم المخاطرة والمخاوف من جهة أخرى، إذ بيّن مدير المصرف الدكتور عمر سيدي أن مسودة أهم تعديل للقانون 26 لعام 2015 الخاص بتسوية القروض المتعثرة جاهزة وتضمّنت صيغة معبّرة عن وجهة نظر المصارف العامة بمراعاة أصحاب القروض المتعثرة، وتم رفعها إلى وزارة المالية والتوافق مع الوزير على صيغة معينة وعرضت على المصرف المركزي ونوقشت معه وعرضت على اتحاد غرف الصناعة وحتى هذا التاريخ لم يصدر أي شيء على الرغم من مضي ستة أشهر.
لإغلاقه سريعاً
وضمن توضيح أهم التعديلات التي اقترحتها المصارف في القانون المذكور، يعتقد مدير المصرف أنه من الضروري التنازل عن بعض الحقوق في ملف القروض المتعثرة لتحصيل جزء كبير منها ضمن مدة ستة أشهر حسب التعديل، ولكن الإصرار حسب رأيه على تحصيل كامل الحقوق يعطل عملية التحصيل وربما لا يتم تحصيله بالكامل، لذلك تم اقتراح إعفاء المقترض المتعثر الراغب بتسديد أصل القرض المتبقي عليه من كامل الفائدة المتراكمة خلال سنوات التعثر، حيث تشكّل حافزاً للتسديد والراغب بتسديد 50% يعفى من مثلها من الفوائد، والمتعثر الراغب بتسديد أكثر من 50% يحق له فقط تمويل جديد من المصارف من خلال عملية تعويم الدين، وبيّن سيدي أن الفترة تضمن للمصرف الصناعي تحصيل 16 ملياراً وهي قيمة القروض المتعثرة إذا تم تسديد جميع المقترضين، وهي الطريقة الفضلى لتحصيل كامل قيمة ملف القروض المتعثرة وإغلاقه مقارنة بالآلية المتبعة حالياً، مبيّناً أن قيمة التحصيلات خلال الخمس سنوات الماضية لم تزد بمجملها عن 13 ملياراً، ورغم تحصيل المصرف نحو ملياري ليرة خلال العام الماضي إلا أن قيمة القروض ارتفعت من 35.2 مليار ليرة إلى 35.7 مليار ليرة نتيجة فوائد التأخير.
وبيّن في معرض حديثه أن التعديل لا يشتمل على الخسارة لأن الفائدة التأخيرية هي عملية حسابية لمطالبة المقترض فيها، إلا أنها لا تعتبر إيراداً حتى تاريخ اليوم وإنما تعتبر إيراداً فقط عند التسديد، أي أنها وهمية، وبالتالي دحض سيدي توجّس بعضهم من أن تطبيق الاقتراح يؤدي إلى خسارة ما في المصارف إذا تم تسديد كامل الدين، وبالتالي فإن التحصيل بالقانون الحالي يمدّد فترة التحصيل، وبالتالي تراكم الفوائد التأخيرية سيصل في وقت ما إلى مبالغ كبيرة لن يستطيع المصرف تحصيل فوائد تفوق أصل الدين.
حذر مشروع
لا شك أن صدور القانون الجديد برسم الحكومة لتجاوز إشكالية القروض المتعثرة، ولكن ذلك في الوقت نفسه لا يعني أن يبرر المصرف نشاطه الحذر أو كسل قنواته التمويلية، حيث تفرض المرحلة زج مقدرات المصارف المالية في مسار الإنتاج، ولكن المصرف الصناعي نأى بنفسه حسب مديره عن الخوض بتجربة منح التسهيلات التي تتطلب مرونة في الضمانة أو غياب المتابعة والتدقيق خلال الوضع الراهن، فالخضات الاقتصادية وعدم الاستقرار -ولاسيما سعر الصرف- تحتمل خسائر وأخطاراً محتملة كبيرة، وبيّن أنه خلال الفترة السابقة تم منح قروض بضمانات وهمية وضوابط وتعليمات ضعيفة وصلاحيات ممنوحة للفروع دون مراقبة، لذلك يتشدّد المصرف بآلياته وتعليماته الإقراضية تلافياً للوقوع بالمطب السابق ذاته “القروض المتعثرة” رغم جهوزية المصرف للإقراض، حيث يمتلك المصرف ودائع تقدّر بـ72 ملياراً منها 30 ملياراً جاهزة للإقراض، ومنذ عام 2018 حتى تاريخه تم منح نحو 7 مليارات ليرة كقروض للمنشآت الصناعية والحرفية وجزء بسيط منها لأصحاب المهن العلمية والمنشآت التجارية ضمن القرض التنموي.
وضعها مربك
وبالمقابل نفى سيدي قدرة المصرف على منح قروض بمزايا وتسهيلات للصناعيين بفائدة تقل عن 10% للقروض القصيرة الأجل أي لمدة سنتين لأصحاب المنشآت الحرفية والإنتاجية والمتضررة، لأن المصرف مؤسسة اقتصادية ويسعى إلى تحقيق هامش ربح يمكّنه من تسديد الفوائد الممنوحة على الودائع التي تبلغ بحدها الأدنى 7%، ويضطر المصرف إلى رفع الفوائد بازدياد مدة القرض لارتفاع نسبة المخاطر، ويقدّم تسهيلاً بقبول جميع الضمانات العقارية سواء في المدن أم الأرياف تعادل 200% من قيمة القرض أو ضمانة زراعية تساوي 300%، أما بالنسبة للضمانة بموجب الآلات والضمانات الشخصية رغم وجودها في تعليمات الإقراض فإن المصرف لم يعُد يقبل بها لأن الأزمة أفقدتها المصداقية، ورغم تمويل المصرف 50% للمنشآت المتضررة إلا أنه إلى الآن لم تقدم أية منشأة متضرّرة على الحصول على تمويل، معللاً السبب بأن بعض أصحاب المنشآت يعتبرون أن القرض غير كافٍ لأنه يموّل 50% من التكلفة حسب تقديرات المصرف وليس حسب تقديرات صاحب القرض وهي إشكالية ترتبط بطلبات بعض الصناعيين، كما بيّن أن المنشآت التي تقع داخل المدن الصناعية لها ديمومة أكثر من نظيراتها التي تقع خارجها، وبالتالي فإن تلك المنشآت لها مشكلات عديدة سواء المتعلق بالضمانة أم بموقعها، لافتاً إلى أن معظمها مستأجر ويخضع لفترة إيجار محدّدة، وبعض المنشآت يقع في مناطق المخالفات أو المناطق العشوائية، وبالتالي يفضل المصرف أن يموّل المنشآت المملوكة لأصحابها وداخل المدن الصناعية لتقليص المخاطر وضمان المصرف لحقوقه.
تمويل مدعوم
وفي جديد المصرف تم توقيع اتفاقية مع مركز بحوث الطاقة لرفع سقف التمويل بنسبة 70% للمنشآت التي ستعمل وفق الطاقة المتجددة للاستخدام الذاتي، كما تتم دراسة اتفاقية لمنح تمويل لمنشآت تنتج طاقة متجددة على أن تبيعها لشركة الكهرباء، بالإضافة إلى المنشآت التابعة للقطاع العام التي ستعمل على إنتاج الطاقة المتجددة للاستخدام الذاتي، كما يدرس خمسة طلبات مقدمة إليه ضمن برنامج دعم الفائدة الذي تم توقيعه بالتنسيق مع وزارة الاقتصاد والمصرف المركزي خلال العام الماضي، حيث تضمّن تقديم دعم لبعض القطاعات التي تحددها وزارة الاقتصاد كالطاقة المتجددة والأدوية والري الحديث وغيرها للاستفادة من دعم الفائدة، حيث تتحمّل وزارة المالية نسبة الدعم من الفائدة.
فاتن شنان