عندما يكون الغباء حلاً
“الذكاء عذاب مضاعف فهو يؤلم ولا أحد يعتبره مرضاً”، أنطوان يبحث عن الراحة وعدم التفكير وفقدان للعقل بعد تعبه من ذكائه، يحاول أن يصبح سكيراً ثم يجرب الانتحار، محاولة تلو الأخرى يقوم بها إلى أن يجد من الغباء مخرجاً لحياة هادئة سعيدة.
يأتي كتاب “كيف أصبحت غبياً” للكاتب الفرنسي مارتن باج على شكل تعزية لكل من يرى اختلافه عن من حوله نقمة، ومن يرى ذكاءه وكثرة تفكيره عذاباً يجب التخلص منه.
يتحدث الكاتب عن شخصية أنطوان الذي يقرر في يوم من الأيام أنه لم يعد يطيق كونه ذكياً كثير التفكير وبعيد النظر وذو عقل فذ، هو يريد أن ينعم بالسلام والهدوء الداخلي الذي يتمتع به كل من لا يفرط في التفكير ففي معظم الأحيان يكون الجهل نعمة وراحة لصاحبه.
رواية تهكمية وممتعة بدرجة كبيرة، الفكرة ذكية فيتحدث عن أفكار عميقة كغربة الإنسان في العصر المادي والتنميط السائد للأفراد في ظل ثقافة الاستهلاك بأسلوب ساخر ومحبب.
نص روائي قصير وممتع لا تتعدى صفحاته الـ 160 صفحة، تحدث فيها الكاتب عن حالة المثقف الذكي الأخلاقي في المجتمع، كيف تقوده مبادئه، ذكاءه، عقله، وأخلاقه إلى حالة الاغتراب والانطواء والعزلة في المجتمع، كيف يشعر هذا الذكي بأنه غير مندمج وغير منسجم وغير قادر على الانخراط الأعمى في العجلة الكبرى التي يدور حولها العالم، فأنطوان شاب في ربيع العمر 25 سنة لكنه لا يشارك في الحفلات الراقصة، ولا يرتدي ثياباً وأحذية لماركة مشهورة، ولا يتناول الماكدونالدز، يفكر بطريقة إنسانية في كل خطوة يخطوها بنتائج هذه الخطوة حتى لو كانت صغيرة جداً كالاستمتاع بالشمس في يوم صحو، فالشمس الحارقة تذكره بما يعانيه البشر في إفريقيا من حرارة فلا يستمتع بها، والمطر يذكره بالفيضانات والأعاصير في آسيا، بل حتى قطعة بطاطا تذكره بأولئك المسحوقين الفقراء الذين ساهموا في غرسها وجنيها، إنه واع بشكل رهيب وهذا الوعي قاده إلى حالة من الكآبة جعلته يقرر أن يصبح غبياً أحمق كبقية القطيع لعله بذلك يشعر بالسعادة.
في الشق الأول من الكتاب حين كان أنطوان الشاب الذكي جداً ليس بالمفهوم المتعارف عليه للذكاء، بل بمفهوم الذكاء اللامنهجي الفضولي المتحمس ذلك الذكاء الذي يسبب قلقاً واضطراباً في النوم وفي الوجبات الغذائية.
في الشق الثاني ينتقل أنطوان إلى المحاولات المستميتة في تغيير واقعه فكانت الخطوة الأولى هي محاولة أن يصبح سكيراً في محاولة منه لينسى ويتخلص من العقل والوعي اللذان تسببا بحزنه وألمه، إلا أن نصف كوب من البيرة يقوده إلى المستشفى، فيحاول بعد ذلك أن ينتحر فينخرط في مركز يدرب على الانتحار بشكل صحيح، لكنه يكتشف أنه لا يرغب بالموت، بل يريد أن يعيش.
في الشق الثالث من الرواية كان أنطوان قد أصبح الشخص الغبي الذي أراد أن يكون، فيذهب إلى طبيب الأطفال الذي وصف له دواء يشعره بالاسترخاء، ويخلّصه من انفعالاته وقلقه وخوفه وشكوكه، هذا الدواء الذي سهل عليه الاندماج في المجتمع الاستهلاكي عن طريق شعور “البلادة” أي حس اللامبالاة اتجاه التصرفات التي يقوم بها ليبدأ ذوبانه في المجتمع وانحداره نحو الحضيض عن طريق العمل في شركة مالية لصديق له، فيصبح سمساراً، ويتأثر بالكثير من العادات السيئة للمجتمعات الاستهلاكية كالموضة والأكل السريع وغيرها.
في الجزء الأخير من الرواية يعود أنطوان إلى حالته الأولى من الذكاء اللذيذ المفرط لكن مع لمسة اختلاف بسيطة وهي أنه قد عثر على توأم روحه التي تشبهه وتكمله، وربما هو الشيء الذي كان ينقص أنطوان منذ بداية القصة، أن تكون ذكياً جداً ليس مشكلة كبيرة إن عثرت على من يشبهك.
الرواية جميلة من النوع الساخر تتحدث عن وضع أي مثقف ذكي يشعر بانطوائيته وعزلته في المجتمعات المادية الاستهلاكية التي لا تؤمن إلا بالمظاهر المادية ولا تهتم بالجوهر والعمق والباطن.
كان أنطوان يسعى لحماية فرديته وخصوصيته حتى لا يذوب في ذلك المجتمع، حيث يأكل الجميع الطعام ذاته ويقرؤون الكتب التجارية ذاتها، ويرتدون الثياب ذاتها، ويفكرون بالطريقة نفسها، حيث لا خصوصية في الوجود، القضية التي يتعرض لها باج هي قضية فلسفية متعلقة بالوجود الإنساني بكيفية حفاظ الإنسان على فرديته، وتميزه.
عُلا أحمد