لوحات من التراث الشعبي في إدلب
يحاول كتاب “لوحات من التراث الشعبي في إدلب” من منشورات الهيئة العامة للكتاب لمؤلفه محمد خالد عمر إضافة لبنة جديدة في بناء الهوية العربية بتدوين التراث غير المادي، الذي يحفظ ما تتميز به الهوية الخاصة عبر التكلم عن الاحتفالات والعادات المتوارثة في مدينة إدلب التي تمثل جغرافية أقصى شمال الوطن، وتعانق عادات وتقاليد وأنظمة قيمية في أقصى جنوب الوطن وهذه العادات تمثل جزءاً من جذورنا التي نعتز بها وعلينا المحافظة عليها وعدم التفريط بها بحجة التمدن والتطور.
في الكتاب جزء كبير من تفاصيل المعيشة في المجتمع المحلي الذي تمثل محافظة إدلب جزءا مهما منه في عصر التحول، ومثل هذه الأعمال لا تسهم فقط في حفظ التراث المحلي والمحافظة عليه، بل تسهم في نشره كجزء مهم من تراث الأمة وهويتها، لذلك إن نشر مثل هذا التراث مهم لذاكرة الأجيال كما هو مهم للهوية الجمعية للإنسان العربي في وقت تحرص فيه الأمة على المحافظة على المعلومة لأن التاريخ والجغرافية أكثر فعالية في وحدتنا وأكثر وفاءً لهويتنا وما علينا إلا أن نكون أوفياء لانتمائنا، وما يفعله الكتاب هو فتح بوابات الفرح التي تزكي الأمل وتعلي الهمم وتحفظ ذاكرة كادت الحرب أن تمحوها من خلال جمع وحفظ بعض التراث الشعبي في محافظة إدلب الذي كان سائداً حتى بداية النصف الثاني من القرن العشرين، ثم ينقلنا الكتاب إلى أجواء تلك الأم ببساطتها وجمالها ودفئها الذي يضفيه جو المودة والألفة وإظهار أهم سماتها إذ كان يبرز جو الفرح والتعاون بوجهه الصريح عند كل مفصل من مفاصل الحياة في كل مناسبة اجتماعية سواء بطابعها المجتمعي أو الديني من ولادة الصبي وختانه إلى “ختم القرآن الكريم” إلى تعلم المهنة أو “الكار”، إلى مواسم الزواج “الخطبة والعرس” إلى الاحتفالات بمولد الرسول محمد “ص” وإبراز الروابط بين تلك الأنشطة الاجتماعية والعادات الأصيلة المتأصلة، كما يبحث الكتاب عن جذر كل فعل من مكونات الأنشطة “كالدبكة، والرقصة الشعبية، والموال، والعتابا” ومدى مناسبتها لبيئتها الجغرافية وهويتها التاريخية مع رصد أجواء الفرح ومتعة أبناء المجتمع بالمحبة ومساعدة بعضهم بعضاً، وتجاوزهم للهفوات التي قد تحدث في صور حياة الناس عبر تحويل شظف العيش وضيقه وألمه إلى أفراح نسجت من مفاصل التعب والعناء والفقر والبساطة، ونمت في أرضية الوداد والتراحم فأنتجت مجتمعاً متماسكاً بالقيم العربية الأصيلة، ولم يكتف الكاتب بتقديم الفنون الشعبية للقارئ وحفظها، بل حاول أيضاَ أن يضفي عبقاً من روح العصر على هذا التراث بألق وحيوية بغير اضطرار إلى تغيير أي شيء منه بل من خلال الوقوف أمامه باحترام مع إدراكه لأهمية نقل مثل هذه الأعمال وتقديمها بثوب حريري في مادته ومزركش في رسمه وتواشيحه، وكيف لا يكون كذلك والفن الشعبي في إدلب مادته غنية جداً ومتجذرة عمقاً في التاريخ وكوّن رصيداً من الإرادة الأكيدة لقاطن أرض الديانات السماوية إضافة إلى الشعر العربي “ديوان العرب”، ولغنى هذا الفن في إدلب بقيت صور لوحاته التراثية مدة تزيد على ربع قرن تحصد جوائز مهرجانات محلية وعربية وتتميز خلالها بالعطاء الصادق والعفوية والخفة بدءاً من المهرجانات المقامة في محافظات القطر وامتداداً إلى مهرجان بصرى الدولي فضلاً عن تمثيل فرقة إدلب للفن الشعبي سورية في مهرجانات عربية ودولية، باختصار حاولت صفحات الكتاب نقل الفكرة وإبداع الحركات وقدرتها على تقديم مفاهيم يحمل كل منها معنى من المعاني السامية كالكرم والإباء وحب الوطن لإيماننا جميعاً أن لا قيمة للفن التراثي الإبداعي إن لم يحمل رسالة قيمة من الأجداد للجيل الجديد الذي سيحمل مسؤولية حفظ الأمانة وتطوير الإبداع، ففي محطات الحياة كانت كلمات الأغنية وموسيقاها وحركة الراقصين والمؤدين للدبكة والتزام المراسم بتفاصيلها من أهم ما يمكن أن تبقيه الأجيال المتتابعة، وإذا كان الشعر العربي ديوان العرب فإن شعرنا العربي بغالبيته الفصيح والشعبي شعر غنائي يتحدث عن الذات الإنسانية بفرحها وحزنها وألمها وشجنها ومعاناتها وحلمها، وفي الختام يمكن القول أن ولادة أي عمل يحكي عن التاريخ القريب والبعيد يسهم في الحفاظ على الهوية المتميزة للإنسان العربي ويحمي تراثه من السلب والسرقة.
لوردا فوزي