العواصف الأدبية..!
حسن حميد
دائماً، وكلما عصفت عاصفة أدبية حواراً، أو نقداً، أو تجاذبات حول تيار أدبي أو مدرسة فنية، أعود بذاكرتي لتلك العواصف الأدبية التي جرت بين العقاد (1889-1964) والمازني (1889-1946) من جهة وأحمد شوقي (1868-1932) ومن حالفه من جهة أخرى، والتي باتت اليوم جزءاً أصيلاً من ثقافة الحوار وجزءاً مهمّاً من ثقافة النقد الأدبي على الرغم من وجوه التطرف التي بدت عليها تلك الخصومة المحتدمة التي جهدت أن تشيطن المنتوج الأدبي للطرفين، وأن تحطّ من شأن القولات النقدية والرؤى الكشّافة لمستبطنات النص الأدبي (قصيدة/ قصة/ رواية/ مسرحية/ مقالة) وذلك بسبب الأنفاس غير الطيبة التي دفعت كل روح نحو مغامرة في حقول تجهلها أو لا تعرفها على حقيقتها!
طبعاً، الحياة حوار، ولا بأس إن علا صوت الحوار إلى حد الصراخ من أجل الإبانة والإفصاح وتثبيت الرأي، ولكن للحوار شروطاً تعارف عليها أهل المعرفة، وفي طالعها التحقيب، أو الجدوى، أو المجتبى، واليوم الحوارات كثيرة ومتعددة في اتجاهاتها، وأكثرها رفعةً هي الحوارات التي غاياتها وأسبابها التثقيف والمعرفة، وأدناها جاهاً ومكانة الحوارات ذات الأنفاس الحامضية المدفوعة بالهوى مرة، وبالرغبة إلى الإطاحة بالخصم سواء أكانت هذه الإطاحة محقة أم غير محقة مرةً أخرى، أما أبرز ما في حوارات اليوم من قوة فهو يتمثل في إدامة فعالية الحوار حول المسائل الخلافية في الأدب والفكر والفنون، وإن كانت النتائج قليلة ولا تشبع نهم صاحب الأشواق العالية للمعرفة العالية، وأبرزها ضعفاً وظلاميةً تتمثل في الحوارات المبنية أساساً على الهوى، والانفعال هوى، والغضب هوى، والتعصب هوى، وكله مولود في مربع الارتجال، والارتجال يد لا تعرف الحذق، وروح لا تعرف الأغوار والأسرار، وعقل لا يعرف الرواء والريث، وبالتالي لا حوارات عالية بسقوفها ودوحها وطيورها ومكانتها حين يكون الارتجال عرّابها أو مهمازها! والارتجال في الحوارات المصبوغة بالهوى أو المدفوعة به لا تؤمن بالثقافات العميقة، مثلما لا تؤمن بتعددية الألوان، ولا تعرف طعوم الثقافة والفنون وهي طعوم لا تعد ولا تحصى، ولكن لا تعرفها وتتذوقها سوى الأرواح التي مسَّها الله بعصا النورانية، والنورانية هي المعرفة وتجلياتها وفيوضها.
اليوم تدور حوارات حول أجناس الأدب وفنونه، وحول الفكر ومدارسه، وحول الثقافة وأدوارها، وهذا أمر جميل مُسعد، ولكن النتائج مخيّبة للآمال، والثمرات قليلة إلى حدّ الندرة، والطعوم لا زكاوة لها أو فيها، والسبب يعود إلى أن عافية زوّادة المحاور، أو قل المشارك في الحوار، ضعيفة أو فقيدة أو قل خاوية أو تكاد؛ ولذلك فإن المنتج الأول للحوار الحيَّ هو ثقافة المحاور مع الآخذ بمرجعياته الفكرية، والقيم التي يؤمن بها أو القيم التي يقدم بعضها على بعضها الآخر.
اليوم تفتقد جوانب من المشهد الثقافي إلى حوارات أدبية وفكرية وفنية غايتها الاشتقاق والابتكار والإبداع على الرغم من حضور الفعاليات الثقافية المهمومة بالأدب والفكر والفنون، والسبب هو أن الكثير من أصحاب التجارب الغنية لا يشاركون في هذه الحوارات لأسباب كثيرة، منها ما يخصّهم هم أنفسهم، ومنها جهل الأجيال الأدبية والفكرية والفنية بهم عطاءً ومكانةً، واجتماع كلا السببين يؤدي إلى ضعف الحصيلة وقلة الفائدة، وتجلي الارتجال، وبدو السطحية والهشاشة، وافتقاد الألفاظ لمعانيها كيما تصير تجارب حيّة تعلّم وتثقّف وتبني الرؤى.
حوار الأمس نتذكره لأنه علّم وأفاد، على الرغم مما كان فيه من هوى واصطفاف، وحوار اليوم يعاني مع أن المعرفة والثقافة والمنابر باتت أوفى، ولكن الثلم جليٌّ في الأدوات والأساليب والطموح.. وهذا يحتاج إلى حوار جاد بعيد عن الهوى والارتجال.
Hasanhamid55@yahoo.com