رحيل فارس مدينة دمشق ومؤرخها
“دمشق، جدة المدن التي تضم أسرار تاريخ ما قبل التاريخ، ولأن هذه البقعة الجغرافية تزدحم بقصص التاريخ القديم” لم يتوقف د. بشير زهدي عن البحث في تفاصيل تاريخ سورية القديم، الذي قال فيه “هذا الحب هو حب للتراث العربي، الذي يتميز بغناه فلا أستطيع إلا أن أكون محباً ووفياً لهذا التراث، إضافة إلى أن نشأتي وولادتي في دمشق جعلتني أحبها وأعشق أحياءها الجميلة، هذه المدينة القديمة، بيوتها، ومبانيها الأثرية المختلفة. دمشق مدينة تتميز بالصمود والاستمرار فهي من المدن المعمرة والمسكونة والمأهولة في مختلف العصور، غزاها الكثير من الجيوش الغازية وغادروها وبقيت دمشق كما هي، وتحولت تلك الفترات إلى مداخل وتاريخ يروى، فهي تستوعب القادم بسعة صدرها وأسلوب حياتها وحضارتها العريقة التي جعلتها تستمر في مختلف العصور، هذه العصور التي تشكل في مسيرتها حقول تاريخها المجيد المزدهر، فهي المدينة العربية المتجددة الشباب، إضافة إلى الحياة الاجتماعية الغنية في دمشق المبنية على التعاطف والمحمية بين المواطنين”.
“دمشق” كانت عشقه المزهو دائماً فبعد دراساته في الخارج لم يغادرها بل بقي فيها مؤمناً بصمودها وتصدّيها مهما حصل وكيفما تكدّر الزمن. رحل د. بشير زهدي عن الحياة تاركاً موروثاً قيّماً من المعرفة بتاريخ سورية وآثارها يخلّد اسمه لدى الأجيال القادمة الباحثة عن المعرفة في عالم الآثار وحكايات تاريخ المنطقة.
علامة فارقة
تخرّج د. زهدي من كلية الحقوق في جامعة دمشق عام 1951 إلا أنه مالَ إلى خوض غمار البحث في مجال الآثار، متابعاً شغفه بهذا العالم ليصل إلى باريس ويدرس في جامعة السوربون علم الآثار، حيث حظي بشهادة الدبلوم من معهد اللوفر عام 1955 عن دراساته حول تاريخ الشرق القديم وعلم المتاحف، وعين زهدي في العام ذاته أميناً على متحف الآثار الكلاسيكية حتى عام 1981، ثم من هذا العام، عين أميناً على المتحف الوطني في دمشق حتى عام 2003.
في الحقيقة، هو واحد من رواد أساتذة التاريخ والآثار، فقد كشف بشير زهدي عن وجوه التراث وقدّمها للأجيال بأبهى صورها، أمضى نصف قرن من عمره ويزيد في ردهات البحث الدائم عن الفن والجمال، وأسهم في الكشف عن وجوه التراث المتألقة، وكان بعد ذلك العين الساهرة على حفظ هذا التراث وإضاءة أقسامه الجميلة، وتقديمه للناس في أبهى صورة.
ارتبطت كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق منذ تأسيسها بالمتحف الوطني بدمشق، ليس لكونه يشكل فضاءً حضارياً وطنياً مهماً وضرورياً لطلابها، يسعفهم في أبحاثهم ويساهم بربط إبداعاتهم بموروثهم وأرضهم، وإنما أيضاً لأن غالبية مدرّسي المواد النظرية في كليتهم كانوا من العاملين في المتحف، وقد شكل د. بشير زهدي علامة فارقة في كلية الفنون الجميلة بشكل خاص وجامعة دمشق بشكل عام، علامة تحملها بكثير من الألق ذاكرة الفن التشكيلي السوري الحديث، وذاكرة وقلوب أجيال لا تُحصى من طلابه في كليتي الآداب والفنون الجميلة في جامعة دمشق.
علم الجمال
مارس د. زهدي التدريس وإلقاء المحاضرات في جامعة دمشق وكلية الفنون الجميلة، وكان يرى أن الجمال قيمة إنسانية مثل الحق والخير، إلا أن ثمة ما يربط الجمال بالفائدة، بدأ بدراسة علم الجمال إثر إيفاده إلى باريس، لدراسة الآثار الشرقية القديمة وتاريخها وتاريخ الفن، ولحظتها رأى أنه خُلق لهذا الفن، ليُكرّس حياته لدراسته، ومعها تبدّلت نظرته للحياة، وكما يقول: “من يدرس هذا العلم تختلف نظرته للحياة عن الآخرين، فيصبح أكثر صبراً على الآلام والمعاناة، يعالج كل ما يتعلق بالفن والطبيعة، الفن والحياة، الجمال والحق، الجمال والخير، الجمال والإنسان، الجمال والحياة”. وأعمال بشير زهدي تحمل معاني أدبية وجمالية وفلسفية، تعرّف بفلسفة الجمال ومبادئه وأسسه ونقده.
وسام الفارس
نال د. بشير زهدي وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى لقاء إسهاماته البحثية في الكشف عن جماليات تاريخ الشرق القديم فقلدته إيطاليا وساماً بدرجة فارس، خاصة أنه على دراية واسعة باللغات الفرنسية والإنكليزية والإسبانية والإيطالية والألمانية، مما زاد في حجم المصادر التي اعتمد عليها في دراسة الشرق القديم، فأخرج أحد أهم كتبه وهو “الإمبراطور فيليب العربي”، وحاز وسام برتبة ضابط من فرنسا.
مؤلفاته
وضع د. زهدي قرابة عشرين كتاباً في تاريخ الفن وعلم الجمال، ولديه شغف كبير بالحضارة العربية، وله العديد من البحوث العلمية المنشورة في المجلات المختلفة، ومن مؤلفاته المطبوعة في المديرية العامة للآثار والمتاحف:
“الدليل المختصر للمتحف الوطني بدمشق” قسم آثار العهود اليونانية والرومانية والبيزنطية، “معلولا المدينة الأثرية والسياحية النموذجية”، “الرصافة لؤلؤة بلاد الشام”، “كنيس دورا أوروبوس” في المتحف الوطني بدمشق، “علم الجمال والنقد” (فلسفة الجمال) مطبوعات جامعة دمشق كلية الفنون الجميلة، “علم الجمال والنقد” (علم الفن)، “تاريخ الفن 1- 2″، “حضارات وأساطير”، “الفن السوري في العصر الهلنستي والروماني”، “دمشق وأهميتها العمرانية والمعمارية عبر العصور”، “دمشق المدينة العربية المتجددة الشباب”، “حوران موطن الفعاليات الحضارية وأضخم المباني المعمارية”، “دراسات في التاريخ والآثار والحِرف الدمشقية”، “من ذكريات الجلاء”، “الصناعات اليدوية السورية التقليدية”، وكان شديد الاهتمام بالبادية السورية التي تعرف ببادية الشام، وهي إحدى مواطن الانتشار العربي قديماً في سورية، وقدم بحثاً بهذا الخصوص بالتعاون مع المركز الوطني للبحث العلمي في فرنسا، والصندوق الوطني البلجيكي، بندوة حملت اسم “سورية الوسطى من البحر إلى البادية”.
جُمان بركات