إيلاريون كبوجي.. المطران المقاوم والظاهرة العظيمة التي لم تأخذ حقها
خرق المطران كبوجي الشكل المتعارف عليه لرجل الدين الذي رهن نفسه لإعلاء كلمة الله والاستعداد ليكون في أي بقعة تختارها له المراجع الدينية الكنسية، فرجل الدين علاقته بأرضه ووطنه لذلك دعم المقاومة وساهم في عملها ضمن فلسطين منذ أول لحظة. وبهذه المناسبة احتفت “دار دلمون الجديدة” بالمطران إيلاريون كبوجي في مكتبة الأسد الوطنية ضمن فعالية بدأت بعرض فيلم وثائقي عن المُحتفى به، وقد أضاءت مديرة الدار عفراء هدبا على كتاب “ذكرياتي في السجن” للباحث سركيس أبو زيد الذي أصدرته الدار وتم توقيعه في ختام التكريم، هذا الكتاب الذي يضيء على تجربة المطران كبوجي تجاه القضية الفلسطينية.
المطران المقاوم
بداية الكلام كانت للأب إلياس زحلاوي الذي قال: هل مَن يعتَب عليّ، إن قلتُ إنّ المطران إيلاريون كبوجي، شكّل سؤالاً في حياته، وظلّ، بعد غيابه، يشكّل سؤالاً؟ مَن كان في شكٍّ من هاتين الحقيقتين، حسبُه أن يتذكّر مَن كان حاضراً في الكنيسة، من كبار المسؤولين الكنسيّين وصغارهم على السواء، إبّان مأتمه، لم يكونوا ليتجاوزوا أصابعَ اليدين! أتُراهم كانوا يخشَون، فيما لو كانوا حضروا مأتمَه، أن يُتّهموا، ولو بظلّ التورّط في ما كان هو قد وقفَ له حياتَه كلّها، على نحو مطلق؟ ألا ليتَهم كانوا يدرون تاريخَ هذا الذي يخشونه! فالمطران إيلاريون كبوجي، كان مقاوماً! ورُبّ سائلٍ يسأل: أيجوز لمطرانٍ أن يكونَ مقاوماً؟ وأنا بدوري أسأل: وهل يجوز لمطرانٍ ألّا يكونَ مقاوماً؟ فكيف به إذا كان مطراناً على القدس، وهل يسعنا أن نقدّر ما تراكم في أعماق هذا المطران الشاب، من تساؤلاتٍ وآلامٍ وثوراتٍ وابتهالاتٍ حارقة بسبب ما كان يحلّ بأبناء فلسطين في كل يوم طوال سنواتٍ وسنواتٍ، منذ النكبة الكبرى عام 1948 فيما هم يُقتَلعون من بيوتهم وقراهُم ومدنِهم بوحشيّةٍ وتعسّفٍ لا حدود لهما تحت سمع العالم وبصره، دون أن تبدر من المنظمات الدولية أيّة بادرةٍ فعّالة، ودون أن تُسمع من مئات أساقفة الغرب، في القارة الأوروبية والأميركية وعلى رأسهم البابا في روما، مجرّد كلمة استغراب واستنكار وإدانة.
وأضاف الأب زحلاوي: أجل، كان من حقّ المطران إيلاريون كبوجي، ومن واجبه في آنٍ واحد، أن يكون مقاوماً، وإلاّ، فقد كان عليه، في الحدّ الأدنى، أن يتنحّى ويعتزل! ولكن هنا بالذات كان ذنبه! لم يكن ذنبه في أنه قاوم! بل كان ذنبُه الذي لا يُغتفَر، فقط في أنه قاوم الصهيونية! وإنّها لَخطيئةٌ لا مغفرة لها، من منظور الكنيسة الغربية، وعقدة ذنبها الرهيبة، والدليل على ذلك، أنّ المقاومة في غير فلسطين بطولة.
ثورة ثقافية
ويرى د.حسن حمادة أن المطران كبوجي ظاهرة عظيمة لم تأخذ حقها حتى اليوم، مؤكداً أن مقولة “الدين لله والوطن للجميع” كانت قناعة المطران كبوجي، فالأديان لا تتحاور أبداً، “لا يكتمل إسلام المسلم إلا بمسيحيته” الدين واحد لأن الله واحد، ولكن مصالح البشر وتجار الطوائف جعلتهم يتاجرون بها للهروب من الوطنية والقومية والدفاع عن الكرامة والأرض. وقد أطلق المطران على الغرب عدة ألقاب: قاتل وكاذب وسارق، وبربري بطبعه، وكانت صورة واضحة بالنسبة له، وقد مارس قانون “لاهوت التحرير” المعترف به من قبل الكنيسة الكاثوليكية قبل صدوره عام 1986.
وأضاف حمادة: كانت فلسطين في قلب وعقل المطران كبوجي، وكان يؤكد على أن النهضة المسيحية التي أراد الصهاينة اقتلاعها من أرضها لا يمكن أن تنجح إلا إذا كانت نهضة وطنية، بمعنى لا قيمة لأي انتماء ديني إذا تناقض مع الانتماء القومي، وهناك خطأ شائع أنه من المعيب عند التحدث عن الصهاينة وتوحشهم وصفهم بالنازيين، لأن النازية هي بنت الصهيونية، ومن المعيب أيضاً استخدام مصطلح الشرق الأوسط وفيه إهانة لنا كشعب ذات حضارة، فنحن بهذه التسمية نكون شرق أوسط بالنسبة للمركز بريطانيا، وهي مجرد بقعة جغرافية فيها ثروات دون حضارة وشعوب، ونحن علينا بالفعل القيام بثورة ثقافية على مستوى المفاهيم كالتي قام بها المطران كبوجي.
رائد المقاومة
بدوره تحدث مؤلف الكتاب سركيس أبو زيد عن المطران كبوجي بالقول: عندما احتلت إسرائيل الضفة الغربية في الخامس من حزيران عام ١٩٦٧، وشاهد أمام عينيه الجثث والظلم، تحول مطران المحبة والسلام إلى ثائر ضد الاستبداد، فأسس مطران القدس إيلاريون كبوجي أول خلية فدائية في المدينة المقدسة، جاعلاً من عباءته الكهنوتية درعاً لمقاومة سلطات الاحتلال. وتحوّل راعي الأبرشية إلى همزة وصل سرية بين المقاومين في الداخل وقيادتهم في الخارج، فراح ينقل من الخارج كل ما يحتاج إليه الداخل متسلحاً بإيمانه وشجاعته وحصانته الدبلوماسية معتبراً أنه لا يستطيع أن يكون محايداً وهو يرى رعيته تتبدد وشعبه يقهر ويقتل، فقرر مقاومتهم وسار على طريق المسيح الذي استعمل القوة لطرد لصوص الهيكل، وهو بهذا كان رائداً ومؤسساً للمقاومة العابرة للطوائف والمذاهب والأديان، وشارك في العمليات الفدائية التي ساهم في تنظيمها. واستمرت رحلاته المكوكية بين لبنان وفلسطين غير عابئ بالخطر على حياته، متحدياً الإسرائيليين إلى أن اعتقلوه في آب عام١٩٧٤، وضبطوا كمية من الأسلحة والمتفجرات في سيارته.
حكم على المطران بالسجن لمدة١٢سنة، أمضى قرابة أربع سنوات خلف القضبان ذاق خلالها جور السجان الطاغية، وأضرب عن الطعام أكثر من مرة فكاد يلفظ أنفاسه على أرض زنزانة نتنة لولا تدخل البابا بولس السادس مباشرة في قضيته وتفاوض الفاتيكان مع سلطات الاحتلال لإطلاق سراحه، وخرج في 6تشرين الثاني عام 1977 ليعيش في مدينة روما بعد أن أمضى أكثر من سنة في أمريكا اللاتينية. أقام المطران كبوجي في دير راهبات الصليب في العاصمة الإيطالية، وهناك التقينا معه أنا وأنطوان فرنسيس، حيث تم تسجيل ذكريات المطران من الولادة حتى السجن، لكن بعد أن تمت صياغتها بإشرافه حصل تدخلاً من السلطات الكنسية فقرر المطران عدم نشرها في حينها وتم إصدارها بعد وفاته نظراً لما تضمنته مسيرته من عبر قيّمة. كما أعطى المطران كبوجي بنضاله من أجل المسألة الفلسطينية بعداً قومياً وإنسانياً، فقد كان رمزاً للحياة المشتركة، بقدر ماهو مطران مسيحي كان مسلماً لرب العالمين بالتقوى والتسامح، وعروبياً بكل ما للكلمة من معنى، ورغم كونه من مدينة حلب السورية فقد كان يعتبر نفسه فلسطينياً بقدر ماكان سورياً ولبنانياً.
القضية الفلسطينية
أما عضو مجلس الشعب الأستاذ نبيل صالح فقال: عندما تعلمت القراءة في كنيسة الآباء “الكبوجيين” التي اختارها لي والدي المسلمان في ستينيات القرن الماضي، كنت أنظر إلى تمثال المخلّص في القاعة الكبرى كمزيج بين “عليّ” و”المسيح”، كي أتماهى مع المثال الذي تربيت عليه فكان مزيجاً من الرحمة والقوة الأمر الذي ساعدني فيما بعد على فهم شخصية المطران “إيلاريون كبّوجي” الذي كان يتردد اسمه في نشرة الأخبار عندما كانت القضية الفلسطينية قبلتنا ومشروعنا الثوري.
كبوجي الرجل الذي حاصر حصاره وهزم سجّانيه ووحد مشاعر الأمة على اختلاف قومياتها وأديانها، إلى أن جاءنا الإخونج وفصائلهم التي فككت الصف المقاوم، إذ أسلموا القضية الفلسطينية وأعادونا إلى “سقيفة بني ساعدة” واختزلوا قدسنا بالمسجد الأقصى وحولوا صراعنا القومي الموحد لنا إلى صراع ديني مفرق بيننا، فخدموا منطق الإسرائيليين ومزاعمهم التاريخية المبنية على الأساطير الإبراهيمية وهذا أسوأ مامرت به القضية الفلسطينية.
وتابع صالح: اليوم نستعيد ذكرى المناضل إيلاريوون كبوجي الذي كان ملهماً لنا ومحرضاً ضد الظلم والاستبداد مهما كان مصدره لعلنا نستيقظ أن العدالة الاجتماعية هي مصدر قوة الأمم، وقوة أعدائنا الذين مازالوا منتصرين علينا بخسائر أقل مما قدمناه من تضحيات.
جمان بركات