الصدق الفني
محمد راتب الحلاق
ثمة سوء فهم لمقولة محاكاة الفن للطبيعة، فالفن لا يحاكي ما هو منجز، وإنما يحاكي الطبيعة في عملية الخلق والإبداع. والفن لا يحاكي حقيقة ما هو موجود، وإنما حقيقة ما يمكن أن يوجد، والفن لا يحاكي ما هو كائن وإنما يقترح ما ينبغي أن يكون، المهم في الأمر أن يكون الفن صادقاً ومقنعاً.
والصدق الفني الذي أعنيه يختلف عن الصدق في العلم وفي التاريخ، ولا علاقة له بالصدق الأخلاقي بطبيعة الحال. الصدق في الفن صدق في الإمكان، فهو انعكاس لما يمكن أن يحدث، ولما ينبغي أن يحدث، وليس انعكاساً لما حدث ويحدث فعلاً، لأن الفن رؤية (ورؤيا) واستشراف للمستقبل. ويسعى الفن لأن يكون الممكن الذي يقترحه أكثر جمالاً وعدلاً من الواقع المنجز. وبناءً على هذا يمكنني أن أقول باطمئنان شديد: إن الصدق الفني أشمل من الصدق الواقعي، وأكثر إحكاماً وانسجاماً منه، أهم ما يميزه أنه يتسم بالتماسك الداخلي والمنطقي بصورة تفوق الواقع، وهنا تكمن إحدى المفارقات الكبرى؛ فالأحداث في العمل الروائي، مثلاً، أكثر انسجاماً مع المنطق من الأحداث التي تجري في البيئة الواقعية، ففي الواقع يمكن أن يحدث موت مفاجئ، في حين لا يقبل المتلقي موت إحدى شخصيات الرواية بصورة مفاجئة، ولاسيما حين تكون هذه الشخصية فاعلة ومؤثرة، ويعد ذلك عيباً من عيوب الرواية، ونقطة من نقاط ضعفها. والمتلقي ينفر من الأحداث التي تعتمد على المصادفة والمفاجأة غير المؤسسة على المنطق، وغير المبنية على المقدمات المعقولة، مع أن المصادفة موجودة في الواقع؛ وكنت ذكرت مرة كيف رفض النقاد (فنياً) فكرة إيقاف تنفيذ حكم الإعدام، بعد أن تم وضع حبل المشنقة في عنق بطل قصة (العطسة القاتلة) التي كتبها القاص الروسي الشهير(تشيخوف) مع أن الحادثة قد نقلها تشيخوف من الواقع. وكلنا نشعر بالسخرية من الحلول الإخراجية لكثير من الأعمال السينمائية والتلفزيونية والمسرحية، حين يظهر البطل في الوقت المناسب، بصورة غير منسجمة مع بنية العمل الفني، بل إن أحد المخرجين السوريين قد بعث إحدى الشخصيات من مرقدها لتستأنف الحياة والفعل من جديد في أحد المسلسلات المعروفة.
وبعبارات مستمدة من أحد النقاد الأسبان المعاصرين أقول: (إن الفن، والأدب، يصنع واقعاً فنياً أهم ما يميزه الإتقان). أرجو أن يكون القارئ قد توصل معي إلى الحقيقة التي تقول: إن الفنان (والأديب) لا يستنسخ الحكايات وإنما يخلقها، ويقوم ببناء حقيقته الفنية الخاصة به، بعد أن يتمثل الواقع ويمتلكه، معتمداً على خياله. والحقيقة الفنية (لحظة إنشائها) لا تقل يقيناً عند الفنان عن أية حقيقة أخرى في أي مجال من المجالات، بما في ذلك المجالات العلمية والعقائدية. فالخيال يعني تهيئة الواقع ليغدو فناً حسب (ماركيز)، ويقدم واقعاً فنياً له زمانه الخاص، المحكوم بقوانين الجمال. والأديب المتمكن يستطيع أن يقنع المتلقي بالواقع الفني الذي يقترحه، ويضطره لأن يتعامل معه كواقع حقيقي عبر عملية التقمص، وعندها، فقط، ينجح الفنان في تحقيق مقولة (أوفيد) في (بجماليون): الفن هو أن تخفي الفن، أي أن تجعله يبدو وكأنه واقع وحقيقة.
الفن الذي يعيد إنتاج الواقع كما هو، فن فائض عن الحاجة ولا لزوم له، لأن هذا الواقع مبذول أمام أعيننا في كل مكان. مهمة الفن، إن جاز لنا أن نسند للفن مهمة، أن يعيد بناء الواقع ليليق بالإنسان وكرامته.