جداول الصدى
سلوى عباس
اضطرته ظروف العمل للسفر إلى بلد مجاور فكتب لها: هنا، وعلى شاطئ يرمي رذاذ بحره على وجهي ندى أزرق وأحلاماً، وفنجان قهوة يبرد كما الشمس التي تبلل ضياؤها.. هناك على حافة البحر البعيدة ترتسمين في وجداني اشتياقاً ورغبة.. هنا أفتقد يديك الناعمتين ترتاحان في يدي.. أفتقد صوتك الذي يوّشي الماء باللؤلؤ ويطعّم هدير الموج بالموسيقا.. وحيد هنا بين الناس والطاولات ولغو الأحاديث.. وحيد بين السماء وانكسارات الموج على حافة الشرفة.. بين طيور بيضاء ترخي جناحها وتطفو على صفحة الهواء وبين صياد يعيد صنارته كل مرة إلى الماء ويخرجها بلا سمك.. مرصود لطاولة لست في طرفها الآخر، ولقهوة لا تشاركني احتساءها شفتان من ورد وعنق مزهر بالاتيرنتي.. لهبات من نسيم بحري رطب يأتي كما الأم توقظ طفلها الذي تأخر عن المدرسة.
قد تكونين الآن في دمشق.. وقد تكونين على حافة البحر.. هناك على امتداد هذا الرمل.. أحمّل روحي لذرة من ماء هذا الأزرق الفسيح، فلها القدرة أن تعبر الصخور والشطان ثم ترمي بنفسها في فضائك الدافئ.. اصغي إليها ستقول لك.. كم أفتقدك.. وكم أشتاقك.. وكم أحبك..
****
اليوم احتضن صوتك البلوري الشفيف الذي أحب.. فيأتيني كما سراب أو صدى.. أسمع صوتك ذابلاً موجوعاً يواري ارتجافه عني ويطرز فوق ألمه بعضاً من ابتسامات لا يخفى عني أنينها.. أسمع صوتك مسبوكاً في قالب من عدم الوضوح.. وكأنك تلونين عصفوراً جريحاً في هيئة عندليب، لكن صوته يظل حبيس جراحه زقزقة يلفها الوجع، وينزف شدوه نشيجاً وبحة وهن واعتلال.
أحاول أن تطمئني قلبي المرصود لأفراحك وأحزانك، وأحاول أن أعرف كيف حدث هذا الانكسار، وما الذي أغرق صوتك الرنيم في بركة التعب والانطفاء، فيأتي ردك في منظومة الإبهام والتهرب فيزيد هذا فيّ قلقي وانشغالات بالي عليك، وأنت تعرفين كم يعذبني أن تقتلع شعرة منك وتترك على وجهك تعبيراً صغيراً وعابراً من “القلق”، وكم يعنيني أن تكوني معافاة دائماً ومشرقة، وتمورين بالصحة كتفاحة يانعة، وكم يهمني أن لا يسرق شيء منك التماع عينيك الجميلتين ولا نضارة وجهك الرائع.. ولا يعكر شيء صفو صوتك الجدولي الذي ينساب في روحي سريعاً يؤلقني ويسقي عشبة الحب التي زرعتها أنت في قلبي.
****
وكأنك خلقت من بحر.. متقلب موجه.. عات ووعر.. أو هو وديع دافئ ورقراق.. وكأنك من الهواء ريح مرة وأخرى نسيم، كم تشبهين الماء.. كم تشبهين الطبيعة.. لك قوانينك المعجزة.. لك إبهامك العصي.. سماء هي ما قبل الخريف.. تتواتر غيومها بين إضفاء الرمادي على الكون، وإزاحة ألغاز العناصر تحت الضياء.. ظل يمتد في لحظة ثم يختفي، وشمس تطل كامرأة من وراء مشربية البيت ثم تنوء خلف ستارة من ليل.. حجر في تدحرجه غير المنتظم على سفح ناتئ الصخور حيناً، وزهرة تميس في حقل من الليالك حيناً آخر، يمامة من بياض النهار والثلج، أو سنونوة تلوي الفضاء بانكسارات اتجاهاتها المربكة.. لك نزق نهر في اشتعال الربيع.. يضمخ الصخور وينثر الحصى والطمي أن شاء.. ولك جدول ينساب كوثراً بين كفين.. لك كل هذا.. ولي أن أرفع كفي إلى وجهي وأسبح الله.