ســــانتياغو قتيـــــلاً.. ضحيـــــــة اللامبــــــــــالاة
هل تساءلت يوماً إن كنت ساهمت في تحديد مصير أحدهم؟ بعدم تدخلك، بتجاهلك لما يحدث أو ببساطة بعدم مبالاتك. يعلن ماركيز في مقدمة روايته “قصة موت معلن” عن نهايتها، بدأ الرواية بما ينبغي أن تنتهي به، وبسط بين يدي القارئ كل التفاصيل التي كان من الممكن أن تصبح في رواية تقليدية بصيص النور الذي يقتفي أثره كي يصل إلى حيث ينبغي أن تؤول إليه الأحداث بتسلسلها المعتاد، ولكن بالرغم من ذلك ظل الكاتب قادراً على شد القارئ إلى آخر صفحة.
تحكي القصة عن عريس يُعيد عروسته لبيت أهلها بعد زواج دام خمس ساعات فقط، اكتشف زوجها الثري أنها فاقدة العذرية، وتحت ضغط صفعات الأهل، أباحت انخيلا فيكاريو عن اسم الشخص الذي تسبب في فض غشاء بكارتها قبل الزواج، فتشير إلى رجل يُدعى “سانتياغو نصار” بأنه من سلب عذريتها من غير تفسير أو حتى الإشارة إلى وجود علاقة سابقة بينهما، فيقرر الأخوين التوأمين قتل هذا الرجل وإعادة شرف العائلة.
الأمر الذي يدعو للسخرية وللحزن الشديد، أن جميع من في القرية علموا بنية التوأمين ولكن لا أحد حرك ساكناً، البعض اعتقد أن الأمر يدعو للضحك أكثر مما يدعو للتصديق، ومن فكر قليلاً اعتقد أنه لا يوجد إنسان عاقل يفكر بقتل أحدهم ويخبر الجميع بذلك، إلى أن توالت الأحداث وقُتل المسكين سانتياغو بصورة مروعة.
لوهلة أولية تبدو القصة عن قضية الشرف، إذ يتم تصوير سانتياغو نصار على أنه شخص سيء، ولكن بعد ذلك تتضح الرؤية شيئاً فشيئاً، ويبدو أنه ليس كما يقولون وبالرغم من ذلك تعرض للطعن عدة مرات على يدي التوأمين حتى مات.
مصير سانتياغو نصار لم يكن في يدي التوأمين، بالرغم من أنهم من حملوا السكاكين، ولكن جميع من فالقرية ساهموا في الجريمة، بلامبالاتهم وعدم تدخلهم، ويبدو أن جريمة كهذه لا تقتل القتيل فحسب، بل تصيب الجميع بالغصة، وتلاحقهم كلعنة مدى الحياة.
يصف ماريو بارغاس بنية الرواية وكيفية الكشف عن أركانها وكأنها راقصة تعري، تنزع قطع الثياب عن نفسها قطعة تلو الأخرى حتى تظهر في النهاية الحقيقة العارية. ويطرح ماركيز الكثير من الأسئلة هل كان من الممكن تجنب هذه الجريمة البشعة؟ هل كان من الممكن تغيير مسار ذاك اليوم المشؤوم لو أن أحدهم تدخل؟ كم من الحيوات ضاعت بسبب سوء فهم؟ وكم من الحيوات ضاعت بسبب لا مبالاة الآخرين؟ قد لا تود تصديق ذلك، كيف لقرية بأكملها أن لا تمنع أمراً معلناً بهذه الصورة ولكنه حدث.
قصة الرواية حادثة حقيقية وقعت عام 1951 عندما كان ماركيز يبلغ من العمر 24 عاماً وظلت الحكاية في باله حتى خلدها في روايته هذه عام 1981، تكمن براعة الأديب الكولومبي في أسلوبه السردي الذي كان على شكل قطع بازل مفككة ومبعثرة أعاد من خلالها تشكيل القصة في مخيلة القارئ.
اختار ماركيز بداية صريحة، هي حكاية جريمة وتلك هي الحقيقة العارية، لكن القارئ لن يفهم من المقتول ومن القاتل ولمَ حدثت تلك الجريمة والأهم هل كانت الضحية تستحق القتل؟.
إذن السبب بسيط، جريمة شرف فلمَ كل هذه الجلبة؟ ذلك لأن هذه الجريمة كانت علنية، فقد صرح الأخوان بنيتهم على ارتكابها لدرجة أن معظم أهل البلدة كانوا على علم بأنها ستحدث بل وأن أهل البلدة تجمعوا لرؤيتها وهي تحدث دون أن يقدم أحد ما على محاولة منعها عدا بعض المحاولات الخجولة التي ومن باب المصادفة والاستهتار لم ترتقِ لمستوى عالٍ من الجدية لتحول دون حدوث المأساة وتمزيق سانتياغو كخنزير.
يثير ماركيز التساؤل عن سبب كل هذا التقاعس في نجدة سانتياغو، ثم يقودنا عبر السرد الروائي إلى أن هذه جريمة يتحمل وزرها المجتمع كاملاً حيث أن إفصاح الأخوين عن نيتهما قتل سانتياغو لم تكن إلا لرغبتهما في أن يهرع الناس إلى منعهما من تنفيذها مما يقيهما من تنفيذ تهديدهما وفي ذات الوقت يغسلان عارهما للشرف المهدور بأنهما كانا عازمين على قتله كما ستؤكد ذلك البلدة كلها لولا أنهم منعوا عن التنفيذ غصباً. لكن ذلك المنع المراد لم يحدث أبداً.
إن المجتمع قد أطلق حكمه وكما قال المحقق على هامش محضر القضية: أعطني حكماً مسبقاً أحرك لك العالم، فقد بدا لكثيرين من أهالي البلدة بأن سانتياغو يستحق القتل بمجرد أن أعلن الأخوان نيتهما على قتله.
عُلا أحمد