مواجهة ظاهرة الاحتباس الحراري والتقشف
عناية ناصر
حظيت المقترحات الخاصة بالصفقة الخضراء الجديدة باهتمام كبير في الولايات المتحدة في الأشهر الأخيرة، حيث ضغط النشطاء على أعضاء الكونغرس وعلى مرشحي الحزب الديمقراطي للرئاسة لدعم الإجراءات الحاسمة لمكافحة الاحتباس الحراري. من الواضح أن هناك الكثير مما يمكن فعله ويجب القيام به في المستقبل القريب لمنع إلحاق أضرار جسيمة بكوكب الأرض.
إن المبادرات الرئيسية في الولايات المتحدة لمكافحة الاحتباس الحراري تحتاج بالتأكيد إلى بعض الزيادات في الضرائب، في وقت من المحتمل أن يكون هناك بعض الركود في الاقتصاد الأمريكي (ربما سنرى المزيد من الركود نتيجة لسياسات دونالد ترامب في حربه التجارية)، هناك دفعة كبيرة تنطوي على مئات مليارات الدولارات من الإنفاق السنوي الإضافي.
على النقيض من ذلك، فإن معظم أوروبا في وضع يمكنها من خلاله بسهولة تقديم التزامات كبيرة تجاه زيادة الإنفاق على الطاقة النظيفة، والنقل الجماعي. لذلك من المحتمل أن تؤدي أجندة الصفقة الخضراء الجديدة في أوروبا إلى زيادة فرص العمل والإنتاج. الفرق الكبير هو أن أوروبا أبعد ما تكون عن مواجهة قيود على اقتصادها، إذ لديها متسع كبير لتوسيع الإنتاج، ولزيادة فرص العمل دون الخوف من تحول التضخم إلى مشكلة.
قبل الدخول في التفاصيل الخاصة باقتصاد أوروبا، من المهم الإشارة إلى أن الدول الأوروبية تتخذ سياسات عالمية أفضل بكثير في هذا المجال من الولايات المتحدة. إن حصة الفرد الواحد من الانبعاثات تقارب نصف حصة الفرد في الولايات المتحدة. علاوة على ذلك، فإن العديد من الدول الأوروبية اتخذت بالفعل تدابير صارمة لتعزيز الطاقة النظيفة.
تمثّل الطاقة الشمسية 7.3 في المائة من الطاقة الكهربائية في إيطاليا، و7.9 في المائة من الطاقة في ألمانيا، و4.3 في المائة بالنسبة للاتحاد الأوروبي ككل. تحصل الولايات المتحدة على 2.3 في المائة فقط من طاقتها الكهربائية من الطاقة الشمسية، كذلك الأمر مع طاقة الرياح حيث تزيد قدرة الاتحاد الأوروبي المركبة عن 70 في المائة من قدرة الولايات المتحدة.ولكن في معركة إبطاء ظاهرة الاحتباس الحراري، فإن القيام بعمل أفضل من الولايات المتحدة ليس جيداً بما فيه الكفاية، إذ يمكن للاتحاد الأوروبي، بل ويجب عليه، القيام بالمزيد لتقليل انبعاثات الغازات الدفيئة.
إن العقبة الأكثر إلحاحاً أمام اتخاذ تدابير صارمة لتخفيض انبعاثات الغازات الدفيئة في أوروبا هي إجراءات التقشف، فقد أصبحت الحكومات الأوروبية، بقيادة ألمانيا، مهووسة بالإبقاء على العجز منخفضاً، ومعظمها لديها عجز صغير أو حتى فوائض في الميزانية. تجسّد ألمانيا هوس التقشف الأوروبي بفائض في الميزانية يقارب 2.0 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي (420 مليار دولار في الاقتصاد الأمريكي). لكن التقشف المالي، وإلى حدّ ما، ليس خياراً منفصلاً لكن قواعد منطقة اليورو تشترط عجوزات منخفضة في الميزانية للبلدان التي تستخدم اليورو، ولكن حتى الدول خارج منطقة اليورو انضمّت إلى سياسات التقشف، فالمملكة المتحدة لديها عجز في الميزانية أقل من 1.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، والدانمارك أقل من 0.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، والسويد لديها فائض في الميزانية بما يقرب من 0.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
هناك بالتأكيد ظروف يمكن أن يكون العجز في الميزانية فيها مرتفعاً للغاية، لكن من الواضح أن هذه الحالات لا تنطبق على دول الاتحاد الأوروبي في الوقت الحالي. كان معدل التضخم منخفضاً باستمرار وقد انخفض في الأشهر الأخيرة، إذ بلغ معدل التضخم في بلدان منطقة اليورو 1.0 في المائة فقط على مدى الأشهر الـ 12 الماضية.
القصة أكثر دراماتيكية إذا نظرنا إلى أسعار الفائدة، فالمشكلة الكلاسيكية المتمثّلة في العجز الكبير في الميزانية هي أنه يؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة التي تضغط على الاستثمار، فأسعار الفائدة المنخفضة بشكل غير عادي في جميع أنحاء أوروبا، تجعل المستثمرين في العديد من البلدان يضغطون على الحكومات لإقراضهم المال.
إن سعر الفائدة على السندات الحكومية لمدة عشر سنوات هو 0.43 في المئة في فرنسا، وفي هولندا 0.57 في المئة، أما في ألمانيا فهو 0.71 في المئة. هذا يعني أن على المستثمرين أن يدفعوا لألمانيا 0.71 بالمائة سنوياً للاقتراض من الحكومة.
هذا هو السياق الذي يكون فيه الاهتمام بالعجز المتدني في الميزانية في هذه البلدان غير عقلاني، فالأسواق المالية تطالب هذه الحكومات فعلياً بإقراض المزيد من الأموال، لكنها ترفض القيام بذلك. والحاجة إلى معالجة ظاهرة الاحتباس الحراري تجعل هذا الرفض مؤلماً بشكل خاص.
حقيقة أن معدلات الفائدة والتضخم المنخفضة للغاية تشير إلى أن هذه الحكومات تضحي بلا داع بالنمو والوظائف، وسيكون هذا الأمر سيئاً بما فيه الكفاية، لكن الصورة أسوأ بكثير عندما ننظر إلى الحاجة الملحة لتخفيض ظاهرة الاحتباس الحراري.
إذا لم تكن مقيدة بتثبيت غير ضروري للعجز في الميزانية، يمكن لهذه الحكومات اتخاذ تدابير قوية لخفض الانبعاثات. على سبيل المثال، يمكنها الدفع مباشرة لتركيب الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، أو تقديم إعانات كبيرة للشركات وأصحاب المنازل. وقد تدعم هذه الحكومات التحول إلى السيارات الكهربائية وتجعل النقل الجماعي رخيصاً أو مجانياً، في حين أنها تزيد بشكل كبير من قدرتها.
جرّب إيمانويل ماكرون خطوات في هذا الاتجاه في وقت سابق، لكنه تعثّر بمتطلبات التقشف في منطقة اليورو. وبما أن فرنسا كانت قريبة بالفعل من الحدود القصوى للعجز في الميزانية التي تشترطها قواعد منطقة اليورو، فقد اضطر إلى فرض ضرائب جديدة لتعويض الإنفاق الإضافي الذي اقترحه لخفض انبعاثات الغازات الدفيئة. وبما أن الضرائب التي فرضها كانت كبيرة إلى حدّ كبير، فقد أدت إلى فعل كبير (احتجاجات “السترات الصفراء”)، مما أجبر ماكرون على التراجع عن معظم أجندته الخضراء.
لو لم تواجه فرنسا قيود ميزانية فرضها الاتحاد الأوروبي، لكان ماكرون قد اقترض ببساطة لدفع أجندته الخضراء. من المحتمل أنه كان من الأفضل القيام بمثل هذا الموقف، وسيكون الأشخاص الذين لم يُفرض عليهم مزيد من الضرائب أقل عرضة للغضب لتحسين عزل منازلهم أو لتركيب الألواح الشمسية. لذلك يجب أن يحظى تثبيت الاتحاد الأوروبي للعجز في الميزانية باهتمام أكبر في وسائل الإعلام.
على الرغم من أن الأحداث خارج الولايات المتحدة لا تحظى في أمريكا بالتغطية المناسبة، إلا أنه لم يكن هناك نقص في تغطية جهود بوريس جونسون، رئيس وزراء المملكة المتحدة في إخراج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. إن البريكست، ولاسيما خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق الذي يبدو أنه كان الخيار الذي يفضّله جونسون قبل أن يواجه البرلمان، سيفرض تكاليف اقتصادية لا داعي لها على البلاد، لكن الضرر الذي يسبّبه التقشف غير الضروري في أوروبا أكبر بكثير، وفي الوقت الذي يتمّ فيه تصوير جونسون إلى حدّ كبير على أنه مهرج متعطّش للسلطة في وسائل الإعلام الأمريكية، يتمّ التعامل مع منفذي التقشف الأوروبي باحترام كبير، ولكون هؤلاء الأشخاص أذكياء ومتعلمين تعليماً عالياً، فإنهم يدفعون بجونسون إلى زاوية الاتهام بالعار.
هناك نقطة أخرى حول التقشف ومكافحة تغيّر المناخ يجدر ذكرها هنا. لقد روّع العالم لرؤية الكثير من غابات الأمازون تحترق. وفي حين أن هذا يعزى للوهلة الأولى إلى سياسات التنمية لرئيس البرازيل اليميني المتطرف، جير بولسونارو، فإن هناك بالفعل مشكلة أعمق بكثير هنا.
الأمازون هو موطن فريد من نوعه ينبغي الحفاظ عليه في كل الأحوال، ولكن بقاءه مهمّ للغاية في معركة الحدّ من ظاهرة الاحتباس الحراري بسبب ما يفعله باقي العالم. لقد انخرطت الدول الغنية في إزالة الغابات على نطاق واسع من أراضيها، وقد دفعت البلدان النامية لتدمير الكثير من غاباتها الطبيعية لتوفير الخشب وغيرها من الموارد، ناهيك عن أن كميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون دفع بها إلى جو الأرض منذ أكثر من قرن.
هذا هو السياق الذي تكتسب فيه منطقة الأمازون أهمية كبيرة للحدّ من الغازات الدفيئة. إن إلقاء اللوم على البرازيل وحدها هو تحريف لتاريخ المشكلة بشكل أساسي. يجب أن تعمل البرازيل للحفاظ على منطقة الأمازون، ولكن ينبغي أن تدفعها الدول الغنية لهذا الخيار. سوف يكون هذا طريقاً من شأنه أن يساعد في تنميتها، تماماً كما كانت البلدان الغنية قادرة على الاستفادة اقتصادياً عن طريق التسبّب بضرر لا يمكن إصلاحه لبيئتها.
ونظراً لأن تغيّر المناخ يمثل مشكلة عالمية بالفعل، هناك حاجة إلى اتخاذ أكثر التدابير فعالية، وإذا كان من المتوقع أن تأتي الإجراءات من دولة نامية مثل البرازيل، فإنه يتعيّن على الدول الغنية دفع الفاتورة. هذه مسألة عدالة وواقعية، لا يمكن إجبار البرازيل على حماية منطقة الأمازون، ولا أحد سيرسل قوات لمنع تدميرها، ولا يمكن جعل البرازيل في موقف أكثر ربحية لحماية الأمازون من تدميرها. ومع وجود الكثير من الركود في اقتصادات الاتحاد الأوروبي، سيكون هذا استخداماً كبيراً لبعض مواردها، وقد يأتي يوم من الأيام تكون فيه حكومة عاقلة في الولايات المتحدة تجعل أمريكا تساهم بنصيبها في مواجهة ظاهرة الاحتباس الحراري.