معركة إدلب وأوهام السلطان
في حقيقتها الجليّة، كما في وقائعها الفعلية المتعدّدة، لم تكن معارك استعادة المناطق الحدودية السورية يوماً ما إلا معارك غير مباشرة مع جيوش الخارج، سواء كان هذا الخارج جاراً قريباً أو غريباً بعيداً، بغض النظر عن “تلطّيه” خلف ميليشيات إرهابية محلية أو عابرة للحدود.
وبالطبع لا تخرج المعارك الحالية، سواء الجارية الآن في الشمال – والتي ترسم اليوم مستقبل الإقليم بكامله – أو المقبلة في الشمال الشرقي – والتي سترسم مستقبل قوى عظمى – عن هذا السياق، فهما معاً، بغض النظر عن الرايات المتعدّدة للفصائل التي تواجه الجيش العربي السوري هنا وهناك، ليسا إلا معركة مزدوجة واحدة ضد عدوين صريحين، جار قريب وهو أردوغان – وليس تركيا الدولة، وهذا أمر هام يجدر التنبيه إليه – وغريب بعيد وهو ترامب. الأول بما يحمله من أطماع شخصية مرتبطة بالعثمانية الآفلة، وبالتالي متعارضة حكماً مع المصلحة الحقيقية لتركيا الحالية، والمتمثّلة بقيام وتمكين الدولة الوطنية السورية، والثاني بكونه فقط ممثل لـ”المؤسسة” في جانبها الامبراطوري – رغم خلافه البيّن معها في جوانب أخرى – المتمثّل في تاريخ طويل من إضعاف واستتباع الدول الوطنية ذات القرار المستقل، بصورة أو بأخرى، عن المركز الأمريكي.
بهذا المعنى لم يكن إعلان أردوغان شخصياً عن عدوان جديد، ولو موهوم، على الجيش السوري في الشمال إلا إعلاناً كاشفاً، بصلافته وفجوره، عن هذه الحقيقة، لكنه، وهو يكاد ينقلها إلى معركة رسمية بين الدولتين الجارتين، يكشف أيضاً، من دون أن يقصد بالطبع، عن فشل أدواته في تحقيق أطماعه التي لا تخفى على أحد، وما التعزيزات العسكرية الضخمة التي عبرت الحدود مع الشمال السوري أول أمس، وهي “أضخم تعزيزات تستقدمها القوات التركية إلى المنطقة”، إلا تعبيراً بيّناً عن ذلك.
وبهذا المعنى، مرة ثانية، ورغم اشتراك أردوغان وترامب في العداء للدولة الوطنية السورية، يمكن ملاحظة بعض الفروق الجوهرية في معركتيهما مع سورية، فأردوغان، على مثال الدكتاتوريين الصغار، يأخذ الأمر على محمل شخصي، تفضحه كمية الحقد والتوتر الواضحة في تصرفاته وتعليقاته، مضافاً إلى الخلفية الإخوانية المحمّلة بوهم “أستاذية العالم” الشهيرة، ما ينتج منه كائناً مركّباً يحمل عداوات للجميع سواء الروسي، أو الأمريكي، أو الأوروبي، أو العربي بكل أجنحته المتعدّدة والمختلفة، لذلك يبدو الحديث عن حل سياسي معه أو “ثقة البعض” بالتزامه الاتفاقات المختلفة، ليسا أكثر من رومانسية سياسية، كما يمكن وصفها بأكثر العبارات دبلوماسية وتهذيباً.
من جانبه يأخذ “ترامب”، على مساوئه الشهيرة، المعركة مع سورية، وغيرها، على محمل دولتي – من الدولة – لذلك تتقدّم عنده المقاربة البراغماتية، بل والتفكير بالانسحاب منها في ظروف معينة تتكاثر دلائل اقترابها – وهنا، ولو من خارج السياق، نفهم بعض الانفتاح العربي على التسويات البينية والإقليمية – لكنه وهو العارف، كما سواه، بأن نتيجة معركة إدلب حاسمة في وجهيهما معاً، يسارع، وهو المحتل البعيد، لمساندة المحتل الأردوغاني القريب في محنته الجديدة، فيعلن بلسان ممثله، جيمس جيفري، أن بلاده، وحلفاءها، في حالة “صدمة ورعب من الهجوم الحاسم للجيش السوري في إدلب”، كاشفاً باستخدامه تعبير “الهجوم الحاسم” عن خوف، ويقين في الآن ذاته، من نتيجة حتمية، ستسمح في مآلها النهائي، بتفرّغ الجيش السوري وحلفائه لمعركتهم القادمة معه، وهي معركة يمكن، إذا انتصرت البراغماتية، أن يتم تجنّبها.
بهذا المعنى، مرة أخيرة، ولأن آفة السياسة، ومقتل السياسي، هي الشخصنة، فقد لا يتأثر “ترامب”، الشخص والسياسي، كثيراً إذا خرج مذلولاً من شمال شرق سورية، فيما سيكون مصير “أردوغان” السياسي، والشخصي أيضاً، على المحك في حال خسارة إدلب وحلب معها، لذلك نفهم استشراسه المستجد القاتل، فهو وإن كان يبرره بأنه “من أجل ضمان أمن بلادنا وشعبنا وأمن أشقائنا في إدلب”، إلا أنه في الحقيقة يعرف، أكثر من غيره، أنه من أجل أمنه الشخصي ومستقبله السياسي، وليس أمن بلاده، الذي بدّده بمغامراته وأوهامه، ولا “أمن أشقائه في إدلب” الذين لا يعنون له سوى أداة يستخدمها تارة للمقايضة المالية والسياسية مع أوروبا، وتارة كوقود في وهمه المجنون لاستعادة “الأمانة العثمانية” في ليبيا.
أحمد حسن