دراساتصحيفة البعث

ليبيا ما بعد القذافي

علاء العطار

لا تزال ليبيا، بعد مضي تسع سنوات على التدخّل العسكري بقيادة حلف شمال الأطلسي، عالقة في دوامة من العنف أربابها جماعات مسلحة وجماعات عرقية وطائفية وتدخل خارجي، والذي أودى بالبلاد إلى فوضى مطلقة.
وسط احتجاجات دعمتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، سرعان ما تحولت إلى حراك مسلح أغرق البلاد في حرب أهلية، أسر المتمردون الزعيم الليبي وقتلوه بوحشية في 20 تشرين الأول عام 2011.
وكونها إحدى أكثر الدول ازدهاراً في القارة الإفريقية، بفضل حقولها النفطية الواسعة، تقسمت الدولة بعد القذافي بين حكومتين متنافستين في شرق البلاد وغربها، وبين جماعات مسلحة عدة تتنافس لاقتطاع حصة لها في السلطة والسيطرة على البلاد وثرواتها.
حكم القذافي ليبيا لأربعين عاماً، وقادها نحو تقدّم كبير في المسائل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهو تقدم لاقى تقدير وإعجاب العديد من الدول العربية والإفريقية آنذاك، وكان القذافي يمثّل شخصية بارزة في النضال ضد الإمبريالية، خاصة ضد الولايات المتحدة وسياساتها التي تنفذها في الشرق الأوسط، لذلك أمست حياته ومماته حدثين محوريين لفهم ما تمر به ليبيا حالياً.

ليبيا قبل القذافي
بعد الحرب العالمية الثانية، وقعت ليبيا فريسة الاستعمار البريطاني والفرنسي، وقامت هاتان الدولتان بربطها إدارياً بمستعمراتهما في الجزائر وتونس. لكن المملكة المتحدة فضّلت قيام نظام ملكي تسيطر عليه مملكة آل سعود وتعترف به الأمم المتحدة، فحكمت عائلة السنوسي البلاد منذ “استقلالها” عام 1951 في عهد الملك إدريس الأول، الذي أعاق انتشار المعرفة تماماً ونشر ظلمات الجهل بينما كان يعزّز المصالح الاقتصادية والعسكرية البريطانية.
وعندما اكتُشفت احتياطيات النفط في عام 1959، لم توزّع هذه الثروة لصالح الشعب، وكانت الأمة خلال الحكم الملكي غارقة في مستنقع التخلف في مجالات عدة، كالتعليم والصحة والسكن والضمان الاجتماعي.. وغيرها الكثير. ولكن في عام 1969، أطاحت مجموعة من الضباط بعائلة السنوسي بقيادة العقيد معمر القذافي، الذي أعلن استقلال البلاد الحقيقي وطرد القوات الأجنبية من البلاد، وكان تقاسم الفوائد والثروة إحدى سياسات القذافي الفورية.

ليبيا في عهد القذافي
منذ أن تولّى القذافي السلطة، كان النفط المورد الأساسي للبلاد، ويمثّل انتصار ثورة عام 1969 نقلة نوعية دفعت الحكومة الجديدة إلى استخدام إيراداتها النفطية لتعزيز إجراءات إعادة التوزيع بين السكان، ما ولّد نموذجاً جديداً للتنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد.
وكان من بين التدابير الاقتصادية التي قادت سياسات القذافي تأميم العديد من شركات النفط الغربي، مثل شركة بريتش بتروليوم، وإنشاء المؤسسة الوطنية للنفط. وتمّ إطلاق برامج اجتماعية طموحة في مجال التعليم والصحة والسكن والأشغال العامة والدعم الحكومي للكهرباء والمواد الغذائية، فأدّت هذه السياسات إلى تحسّن كبير في الظروف المعيشية، فتحوّلت ليبيا من كونها إحدى أفقر البلدان في إفريقيا عام 1969 إلى دولة رائدة في مؤشر التنمية البشرية في القارة الإفريقية عام 2011.
وعلى المستوى الوطني، استطاع القذافي التعامل مع معضلتين أساسيتين من سمات المجتمع الليبي، وهما صعوبة السيطرة على القبائل من جهة، وتفتت المجتمع إلى مجموعات قبلية وإقليمية متنوعة، ومتعارضة أحياناً، إذ تشير التقديرات إلى وجود نحو 140 قبيلة في الأراضي الليبية، ولكل منها ولاءاتها المختلفة.
أما على المستوى الدولي، فينبغي تسليط الضوء على الوحدة العربية والمواجهة المفتوحة أمام الولايات المتحدة بسبب المعارضة التي مارسها القذافي على تأثير هذه الدولة الإمبريالية، فشكّل علاقات أوثق مع الدول العربية لتنفيذ سياسات مشتركة تناهض سياسات واشنطن في الشرق الأوسط وإفريقيا.
وعمل الزعيم الليبي على تعزيز العلاقات مع الدول العربية كسورية ومصر والمغرب وتونس.. وغيرها، كما ارتبط القذافي ببلدان أمريكا اللاتينية أمثال فنزويلا وكوبا، ما أدى به إلى تنمية شبكة واسعة من الاتصالات والنفوذ غير المريح في نظر أوروبا والولايات المتحدة.

اغتيال القذافي
وصلت سموم “الربيع العربي” إلى ليبيا بعد شهر من انتشارها في تونس في كانون الأول من عام 2010، ولو كانت بطريقة مختلفة، إذ لم تتكرر “المظاهرات الجماهيرية” التي ميّزت تونس ومصر، بل كانت الجماعات الإسلاموية هي من تحرك للإطاحة بالقذافي.
ويتفق بعض المحلّلين السياسيين على أن الحراك في ليبيا لم يكن حراكاً جماهيرياً على المستوى الوطني، ولم يكن هناك دعم شعبي للإطاحة بحكومة القذافي. لكن هذه الانتفاضات في بنغازي كانت كافية لمجلس الأمن وحلف الناتو للتدخل بحجة “حماية الشعب الليبي”، فتمّ قصف ليبيا على إثر ذلك بين آذار وتشرين الأول من عام 2011، الذي كان له أثر حاسم في اغتيال القذافي.
وتبعاً لبعض المحلّلين، لم يكن تدخل الناتو في الشؤون الداخلية الليبية والإطاحة بالقذافي نتيجة نزاع بين الليبيين، وإنما لإستراتيجية طويلة الأمد لزعزعة استقرار المنطقة بأسرها.
وبعد مرور تسع سنوات على مقتله، بات الليبيون يعيشون في بلد دمرته الفوضى ويملأ الإحباط صدورهم المثخنة أصلاً بجراح الحرب البشعة.
كانت ليبيا في عهد القذافي مستقرة اقتصادياً واجتماعياً، أما الآن فهي بلد مفتّت دمرته الهجمات والتفجيرات والاشتباكات المستمرة، وكل ذلك نتيجة غزو الناتو في عام 2011.