الصّفْقة
عبد الكريم النّاعم
الصّفقة المُتداولة الآن بقوّة، هي “صفقة القرن” كما سمّاها الرئيس الأمريكي ترامب، أكثر الرؤساء الأمريكيّين صراحة فيما تريده أمريكا، فقد كان سابقوه ينفّذون هذه السياسة بتكتّم قدر المستطاع، أمّا هو فقد خرج عارياً من أيّ ورقة ساترة، وقال للأعراب ادفعوا، عليكم أن تدفعوا، لأنّنا نحن من يحمي عروشكم، ولم يثر هذا الكلام الفظّ حفيظة أيّ منهم، فقد انصاعوا جميعاً، ودفعوا وكمّموا أفواههم بكمّامات الذلّ والقبول، ووافقوا أن يكونوا أدوات صغيرة لتنفيذ إرادة راعي البقر الأمريكي. أنا واثق من أنّ الشعب في دول الخليج مثله مثل بقيّة الشعوب العربيّة الأخرى، ولكنْ.. ما باليد حيلة لمواجهة طواغيت القمع، والاستبداد، المحمي من أكبر وأخطر دولة في التاريخ، تبني أمجادها بإفقار الآخرين، وبالتّنكّر للحقوق المشروعة المتعارَف عليها دوليّاً.
لقد شاهدتُ في طفولتي ويفاعي تلك “الصفقة” التي كانت تجري بين وسيط الشراء، في سوق للدوابّ، وكانوا يسمّونه (الجِمْباظ)، ولعلّ المفردة من مواريث مستعمرينا الأتراك مدة أربعة قرون ونصف، فـ(الجمباظ) يمدّ كفّه للبائع، ويصفق على يده، ويظلّ ممسكاً بها ويهزّها بقوّة، وهما يتفاصلان على السعر، حتى إذا وصلا إلى اتّفاق فكّ يده (الجمباظ) وصَفَقَ مرّة أخرى على يد البائع، وقال له: “أُدعُ له بالبركة” (الجمباظ) العصري ترامب، لم يكن له شريك في البيع، فقد فوّض نفسه، باسم القوّة الطّاغوتيّة، وباسم انصياع حكّام أعراب أن يكون هو البائع والشاري، غير أنّ الأمر لم يخلّ من “صَفقًة” على يد نتنياهو المحتلّ المتجبّر بجبروت أمريكا.
فيما نعرف لم يكن هناك أحد من أهل فلسطين، هذا في العلن، أمّا في الخفاء فما ندري ما الذي عُقِد، أو يُعقد من وراء ظهر شعب فلسطين، والأمّة العربيّة، لأنّ ثمّة مَن يقول إنّ في الرزّ بصلا، ولا نستطيع النفي أو الإيجاب، لأنّنا، كأناس رافقنا تطوّرات القضيّة الفلسطينيّة منذ بداياتها حتى الآن عرفنا الكثير من المفاجآت، والنّقلات المرُتَجَلة، والتي حصدنا جميعا من ورائها المؤلم من المرارات.
ترامب القادم من عالم بيع العقارات، ونوادي أمريكا الليليّة شخص متمرّس في مسألة البيع والصفقات، وهاهو يختار أفضل “صفقة” لإسرائيل، وكلا ترامب ونتنياهو يقول للآخر اسندني لأسندك، على حساب الحق العربي في فلسطين.
في ذاكرتي أنّ الرئيس اللبناني إلياس الهراوي حين سعى بجدّ لإقناع الرئيس الراحل حافظ الأسد بأن يكون الحريري الأب رئيسا لوزراء لبنان، حذّره الرئيس الأسد من أنّ الحريري مُقاول، وسوف يدير لبنان بعقليّة “مقاول”، ولكنّ الهراوي أصرّ عليه، وحصد لبنان ما حصد، وما زال يحصد نتيجة لتلك العقليّة.
ربّما لأنّني ما زلت أحمل الكثير من البراءة في أعماقي، والتي قد تبلغ حدّ السّذاجة، كنت أظنّ أنه ما أن يعلن ترامب عن “صفقته” حتى تنهار أعمدة دهاليز أوسلو، وتلتقي جميع الفصائل الفلسطينيّة على برنامج عمل واحد هو المقاومة بكلّ أشكالها الموصِلة إلى ذلك الحقّ المضيّع، بيد أنّ ما سمعتُه من تصريحات صدرت من موقع له أهميّته جعلني أتردّد في الرّهان، بل وأن أعيد الكثير من الحسابات، وأوّلها أنّ ما يخطر ببال الأنقياء منّا ليس له أيّ مكان، على ما يبدو في حسابات الذين يجلسون في مواقعهم.
أنا أعتقد أنّ الزمن الذي نواكبه على ما فيه من تشابكات وتعقيدات، وألغام، قد يكون أفضل الأزمنة للخروج من فضاءات كامب ديفيد ولواحقها في زواريب أوسلو، لاسيّما وأن حلف المقاومة هو على درجة عالية من الكفاءة، والصدقيّة، والقدرة، والثبات، ووضوح الرؤية، على الرّغم من كلّ الحرائق المشتعلة.
أعتقد جازماً أنّ من يعمل، أو يدّعي العمل، من أجل القضيّة الفلسطينيّة، حين لا يعوّل تعويلا كبيرا على قدرات حلف المقاومة، ووضوح رؤيتها عليه أن يُراجع حساباته، وعلينا أن نراجع حساباتنا تجاهه.
لا تنسوا أنّ “الصّفقة” و”الصّفاقة” ذات جذر واحد.
aaalnaem@gmail.com