الناقد والنقد
تمّام علي بركات
ضرب من البلاء ابتليت به عموم فنوننا، وذلك في حال النقد المتردي الذي يواكبها، أو الذي من المفروض به ذلك، سواء في الإضاءة على الجوانب المهمة والقيّمة في تلك الأعمال، بغية إعلاء شأنها والتأكيد على أهمية ما ذهبت إليه في طرحها، وأيضا تقديم الرأي المدروس بما قدمته وظهر فيها من خلل، يعمل الناقد على تصويبه، بغية تلافيه وتطويره في أعمال تالية، وبهذه العملية التي يجب أن تكون تفاعلية، يتم الارتقاء بالفنون عموما، وإلا فإن الانحدار في المستوى والمضمون والشكل، هو ما ستؤول إليه، وهو ما سينقلها من خانة “الإبداع الفني”، إلى خانة معاكسة تماما لهذا المفهوم.
اليوم نرى بمزيد من الحسرة، إلى ما آلت إليه عموم الفنون، التي تمادت في غيّ سوء نتاجها، وذلك لأن كلمة حق لم تقل فيها، وما ظهر من حالات نقدية تعاملت معها، لم تخرج إما عن المجاملة التي تقف المنفعة الشخصية خلفها غالبا، أو الجهل.
ذاك البلاء يمكن رصد مثالبه فيما نقرأ ونشاهد ونسمع، ومن عدة جهات، إلا أن أحد أوجهه وأكثرها خطورة، هو جهل من يخوض في شأن جسيم كهذا الشأن، بما يخوض به! فتلك الفنون حظيت يوما بل وتدللت على صرير أقلام نُقاد، لا هوادة عندهم في رأيٍ حق يقدموه، مقالتهم فيها كانت تُضيئها و”تجوهرها” كما يصيغ “جواهرجي” الذهب المائع وردا، وهي أيضا قامت بالتأسيس لمدارس نقدية جديدة، فيما عملت هي على اكتشافه والوصول إليه، من خلال إعمالها الفكر النقدي الحر فيما تفعل، ولسوف نجد بعد قليل عناء وبحث، أن أهم الأعمال الأدبية والفنية، لم تكن لتظهر إلى العلن، وتصبح من أهم ما يتناقل الناس أخباره، لولا أن أضاء ناقد ما على أهميتها، وعمل على تقديمها بما يبرز محاسنها، دون أن يتناسى أو يتعامى، عن السلبيات التي فيها، كأعمال “شكسبير” على سبيل المثال لا الحصر، المسرحي الأشهر في التاريخ، الذي مات دون أن يسمع به إلا قلة، ولتمر سنون طوال على موته، قبل أن يُعمل بعض النقاد أقلامهم فيما ترك من نتاج أدبي وفني خلفه، ويكشفون للعالم بديع ما صنع من أعمال مسرحية خالدة، لا زالت حتى اليوم تُبهر الجمهور في مختلف أنحاء العالم، وهذا يؤكد أن واحدا من أهم أشغال النقد، أنه يكشف بشكل واعٍ ما قام به الفنان بشكل غير واع، ومن هنا يمكن لنا أن نورد بعض الصفات التي يجب أن يتمتع بها الناقد بشكل عام، ومنها:
يجب على الناقد أن يتذكر دائماً أنه جزء من الجمهور، لا أن يكون وصياً عليهم ولا على العمل الفني؛ فالناقد يجب أن يدرك أن المعايير التي تثيره لمتابعة عمل فني أو نقده، هي نفسها المعايير التي تثير الجمهور، ولذا عليه ألا يتمايز عن الجمهور، أو يدعي أنه متفوق عليه، بأن يدعي أنّه يعلم أسباب النجاح، وما يكتبه في هذا السياق هو ما يؤكد معرفته أو جهله بتلك الأسباب.
الابتعاد عن العامل الشخصي، والاندماج بالعامل الشخصي في آن؛ وهذه ليست أحجية، فالابتعاد عن العامل الشخصي، يعني ألا يقبل الناقد أو يرفض عملا ما، بسبب عوامل شخصية مع صناعه، أما الاندماج مع العامل الشخصي، فهو يعني أن ينطلق الناقد من إعجابه البسيط بالعمل الفني، بصرف النظر عن النظريات والمبادئ الجمالية، ثم يحاول أن يجيب عن تساؤل: “لماذا أعجبني؟” وفق تلك النظريات، وهذا يقودنا لأحد أهم العوامل التي يجب أن تتوفر عند الناقد الحقيقي، فلا يصح أن يضع الناقد النظريات، كنقطة بداية لتقييم هذا العمل أو غيره، لأن العمل الفني ليس علما، بل هو فن.
يتعامل العديد من “النقاد” مع هذا الشأن الخطير كما أوردنا، بعقلية “الترويج” –وهذا الرأي ليس اعتباطيا، بل هو مما وجدناه في الواقع-وهذا الفعل الشائن، يُخرج المادة النقدية عن توصيف “النقد” ويُدخلها في مفهوم”الترويج”، الذي يجيء غالبا وفق: إما “الشللية”، أي: المخرج- الكاتب- شركة الإنتاج، مع صديقهم الناقد، شاعر البلاط الدرامي، أو وفق التكسب والاستمالة، أي أن تقوم شركة إنتاج، مخرج، كاتب، باستمالة ناقد ما، بخدعة الصداقة أو الإغراء بالمكاسب، فيمتدحه، وأحيانا يقوم بمهاجمة أعمال فنية، لا لما جاء فيها، بل لأنها لا تروق لأصدقائه أو للشلة المحسوب هو عليها، وهذا يضعف العملية النقدية برمتها، ويجعلها عديمة القيمة، خصوصا وأن الناس عموما، باتوا لا يصدقون النقد، وحجتهم في ذلك، هو قناعتهم بأن هذا يمدح لمصلحة، وهذا يهاجم لمصلحة!
يمكن للناقد أن يقوم بدمج عدة أنواع نقدية ببعضها البعض، ليخرج بنقد فعّال وصحيح لما يتصدى له، وعلى الناقد الجيد أن يدرس كل عمل فني على حدة وأن يكون مرناً في التعامل معها واتباع المعايير المناسبة لكل منها، مع الأخذ بعين الاعتبار مستوى المجتمع الفكري والذوق الفني، ومقدار تعوده على أنماط معينة من الفنون المختلفة.
ليست مهمة الناقد سهلة أبدا، هذا في حال أراد أن يكون محترفا، صادقا، أمينا وغيورا على الفن والأدب.