المنطقة في لحظة تاريخية فارقة
ربما لم تمر المنطقة، بعربها وعجمها، في لحظة تاريخية فارقة مثل هذه التي نعيشها هذه الأيام، فهي تجمع من جهة أولى بين المرض السياسي والتاريخي، ويتزاوج فيها من جهة أخرى ثنائيات التراجيديا والكوميديا، الاحتيال والسذاجة، التذاكي والغباء، بما يمكن وصفه، تجاوزاً، بلحظة “شكسبيرية” يرافقها “كورونا” سياسي يفضح عطباً تاريخياً، يبدو، حتى اللحظة، أن علاجه مازال خارج متناول اليد.
فمن جهة أولى يتزاوج الاحتيال والسذاجة والتذاكي في قلب الحرب في سورية وعليها في طورها الأردوغاني الحالي، دون أن تخلو، بدورها، من نفحات الكوميديا التي يقدّمها بعض الأطراف بين الحين والآخر، ومن جهة ثانية تتظهّر المأساة والكوميديا من ثنايا “صفقة القرن” التي لا يجوز لعاقل التقليل من خطرها أو من نتائجها الكارثية على فلسطين، القضية والجغرافيا، كما على كامل ما كان يسمى المنطقة العربية، قضية وجغرافيا أيضاً.
والحال فإن الاحتيال والتذاكي، المقترنين بجرعة قليلة من الكوميديا، ولكن اللذين يمكن لهما أن يقودا إلى “المأساة” الأكبر في المنطقة حتى الآن، يتمثّلان بالموقف التركي من الحرب في سورية وعليها، فتوتّر أردوغان وصراخه اللذان يدفعان المراقب، الجاهل بجغرافية المنطقة، للظن أن الجيش السوري وصل إلى قلب اسطنبول، يكشفان عن حقيقة لا يجهلها العالم بجغرافيتها السياسية، وهي أن الجيش الذي يستعيد إدلب، مرحلة تلو أخرى، إنما يستعيدها فعلياً من يد أردوغان، وأن الضربات التي تتلقاها “جبهة النصرة”، وأخواتها، هناك تصيب، فعلياً، قلب مشروعه الاحتلالي البغيض، وأن نتيجتها، الحتميّة، ستكون تحوّلاً استراتيجياً ميدانياً وسياسياً، “لعله الأهم منذ بداية الصراع قبل نحو تسعة أعوام”، وهو تحوّل سينال حكماً، وبالقدر ذاته، من وزن أردوغان في الداخل التركي كما في الإقليم بأكمله، وذلك فقط ما يفسّر خطواته الحربية، التي وإن كانت، في حقيقتها، استدراج عروض سياسية تلبي بعض مطالبه، إلا أنها، مع شخصيته المتورّمة بالعظمة، ربما تجر المنطقة إلى “المأساة” بصورة حرب إقليمية قد تكون مقدّمة لحرب أكبر، لا يبدو أن أحداً يرغب بها حتى الآن.
بيد أن الأمر لا يقتصر على سورية فقط، فـ”المأساة” التي ترسم خطوطها “صفقة القرن” لا تتمثّل فقط ببنودها العجيبة ولا بطرفيها الغريبين، من لا يملك ومن لا يستحق، على غرار “وعد بلفور” الشهير، لكنها تتمثّل، على غرار “الوعد” أيضاً، في ردة الفعل الفلسطينية والعربية والدولية الباهتة عليها، تارة بحجة أنها ولدت ميتة، وتارة أخرى بحجة أنها غير قابلة للحياة، وهي، للمفارقة، الحجج ذاتها التي أطلقت منذ أكثر من مئة عام ضد “الوعد”، ومنذ نحو خمسين عاماً ضد “النكبة”، ومنذ ومنذ..، ويتجاهل الجميع حقيقتين جليتين: الأولى، أن أغلب بنود الصفقة متحقق على أرض الواقع عبر تاريخ طويل من العدوان “الإسرائيلي” والتخاذل، بل التآمر، العربي الرسمي والاكتفاء بـ”الجهاد الخطابي” المعتاد، والثانية، أن أمريكا، التي أنهت الحرب العالمية الثانية بالقنبلة النووية، ولكنها تركت قنبلة زمنية هي فلسطين، كما قال طه حسين قبل “النكبة”: تريد اليوم، في حربها المستمرة ضد العالم، استخدام هذه “القنبلة” في تفجير الصيغة الجيوسياسية للمنطقة بهدف تأبيد الصيغة الجيوسياسية العالمية كما هي الآن.
ولأن قضايا المنطقة مترابطة بامتياز، يبدو أنه على كيفية إنهاء الحرب في سورية، وعليها يتوقّف مصير، ومستقبل، المأساة والتذاكي والاحتيال والسذاجة، ومصير، ومستقبل، بعض الكوميديين أيضاً، فجغرافيا المنطقة تستعيد طبيعتها مع كل تقدّم للجيش السوري، وهو تقدّم، لا يسقط فقط المشاريع الجيوسياسية الأردوغانية، بل يسقط معها بعض المشاريع الجيوسياسية الأخرى، فاسحاً المجال أمام إمكانية بدء تعافي المنطقة من وباء “كورونا” السياسي الذي يجتاحها منذ عقود، بل قرون، طويلة، بيد أن ذلك يبقى مشروطاً، في يقيننا، بتضافر جماعي لقوى المنطقة الحيّة أولاً في فهمها للخطر الأردوغاني على مستقبلها، ومشاريعها، أيضاً، واعتبار مواجهته فرض عين على الجميع، وثانياً في جبهات أخرى تتطلّب معالجات متعددة وأدوية، وأدوات، أخرى، تزاوج بين العسكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني، للوصول إلى التعافي الكامل.
أحمد حسن