“صفقة القرن”.. مسار آخر في صراع الحضارات
علي اليوسف
فرض الاحتلال الصهيوني منذ عام 1967 طوقاً شاملاً على الأراضي الفلسطينية، وقام بدمج الخدمات بدوائر ومؤسسات الكيان الإسرائيلي، وألحق اقتصاد الضفة والقطاع بعجلة اقتصاده، ما شكّل عقاباً جماعياً للفلسطينيين وأدى إلى تدهور مستمر في أوضاعهم المعيشية، إضافة إلى سياسة الفصل الاقتصادي بين الضفة وقطاع غزَّة الذي يعيش حصاراً خانقاً منذ عام 2006، حيث استفحلت ظاهرة الفقر وتراجع مستوى المعيشة وارتفع معدل البطالة إلى أكثر من 43%.
مؤخراً، أظهرت دراسة قام بها الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني حول مستويات المعيشة أن نحو 29% من الفلسطينيين هم من الفقراء، وأن الأفراد الفقراء في قطاع غزة الذين تقدم منظمة الأونروا مساعدة لنحو 80% من سكانه هم أكثراً فقراً من أقرانهم في الضفة الغربية التي يبلغ معدل البطالة فيها 18%.
وما زاد الأوضاع تعقيداً “صفقة القرن” التي هي باختصار محور أميركي– إسرائيلي، لكن لا يمكن أن تمرّ هذه الصفقة إذا لم تأخذ بالحسبان الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، ولا يمكن لهذه المعادلة الأميركية تحت إدارة ترامب الحالية وإسرائيل اليمينية أن تلغي تاريخاً وقضيةً وحقوقاً دائمةً حملها الفلسطينيون رغم كل العقبات ورغم كل المحاولات لطمس قضيتهم وحقوقهم المشروعة.
هذه الصفقة لن تمر، ولكن إذا ما استمرت الإدارة الأميركية الحالية وإذا ما أُعيد انتخاب الرئيس ترامب، فهذا يعني بأن الأجندة الإسرائيلية اليمينية والأميركية المتطرفة ستكون هي الأجندة لعمل ما يريدون عمله في القدس وفي الأراضي الفلسطينية بأكملها، بمعنى أنه على الفلسطينيين والعرب عموماً أن يستعدوا سياسياً واجتماعياً وبكافة الأطر والإمكانات المتوفرة للوقوف أمام مثل هذه الصفقة. وما يساعد قليلاً في هذا الموضوع أن العديد من الساسة الأميركيين المعارضين لترامب لا يقبلون بالسياسات التي تنتهجها حالياً الإدارة الأميركية، والتعويل على العالم العربي هو تعويل قد يكون رهاناً، لأن الكثير منهم ذهب إلى التطبيع وترك القضية الفلسطينية وشعبها لمصيرهما المجهول.
المشكلة اليوم أن التحالفات الإقليمية قد خلطت الأوراق وجعلت ما لم يكن ذا أهمية في الماضي الأهمية الأولى على حساب القضية الفلسطينية وحقوق الشعب العربي الفلسطيني، ونحن أمام عالم يغلي بصراع الحضارات وصراع الهويات وصراع الأديان، والكل يعرف أن قلب هذا الصراع هو في فلسطين التي هي مهد حقيقي للديانات الثلاث. لكن ما يجري اليوم يبدو في الواقع صراعاً حضارياً، إضافة إلى أنه احتلال لدولة ذات سيادة وحضارة ضاربة في التاريخ منذ ولادة السيد المسيح.
على الرغم من الأشكال المتعدّدة التي اتخذها الاستعمار الغربي عبر تاريخه الطويل، فإن واقعه الحالي المتجسّد والجاثم على أرض فلسطين يمثل شكلاً جديداً وغير مسبوق، يترجم تجربة استعمارية تمارسها القوى الغربية بالوكالة من خلال تفويض خاص تقوم بإعطائه لصنيعتها في المنطقة العربية “إسرائيل”، من أجل تنفيذ مختلف المهام القذرة التي تسمح باستمرار حالة انعدام الاستقرار في مختلف أقطار الوطن العربي. صحيح أن هناك بعض القوى الديمقراطية الغربية التي لا تساند مثل هذه التوجهات السياسية، انطلاقاً من قناعات فكرية صرفة لا تنسجم مع الرؤى الإستراتيجية المعتمدة، لكنها قناعات لا تستطيع أن تفعل شيئاً من أجل تغيير الوضعية، حتى حينما تكون على رأس هرم السلطة في بلدانها، لأن تركيبة النظام السياسي التي أفرزتها نتائج الحرب العالمية الثانية، مكّنت اللوبي الصهيوني الحامل للجنسيات الغربية المختلفة، من القيام بإغلاق محكم لقوانين اللعبة السياسية، وتحديداً على مستوى صياغة التوجهات المتعلقة بالسياسة الخارجية للدول، وخاصة بعد ما تبلورت مع مرور الزمن قناعات راسخة، ولكن غير معلنة، بأن وجود “إسرائيل” في المنطقة العربية يمكنه أن يساهم في حسم الصراع الحضاري لمصلحة الغرب الذي يتكئ على تراث عريق من الثوابت الثقافية والدينية.
إن ما يحدث في أرض فلسطين منذ نهاية نموذج الاستعمار السياسي التقليدي الذي ساد خلال القرنين الماضيين، يؤكد أن الصراع على أرض فلسطين هو صراع حضاري بامتياز، وهو ما يقوده ترامب الآن من خلال صفقة القرن. في الماضي فضّلت الدول الغربية المعاصرة من أجل الوصول إلى حسم هذا الصراع لمصلحتها، أن تضحي بالكنيسة الشرقية وبمجمل رموزها الدينية والثقافية، من أجل توطيد أسس جديدة لحضارة غربية جديدة تعلي من شأن الإسهام التاريخي للاحتلال الصهيوني في منجزات الحضارة الغربية على جميع المستويات، كما أن التأريخ الثقافي لهذه الحضارة الغربية الجديدة تتمّ بلورته منذ مدة ليست قصيرة، انطلاقاً من تصورات فكرية وإيديولوجية صاغتها نخب صهيونية أوروبية معاصرة هاجر قسم كبير منها إلى الولايات المتحدة، ونقلت تصوراتها ومشاريعها الفكرية إلى العالم الجديد. ويمكن القول إن العلاقات الثقافية الأوروبية والأمريكية، هي في قسم كبير منها انعكاس لعلاقات غير مباشرة بين النخب الصهيونية الأوروبية والنخب الصهيونية الأمريكية، التي سبق لها أن هاجرت خلال فترات متعدّدة من أوروبا باتجاه الولايات المتحدة. وهناك مؤشرات عدة كشواهد عينية على تنامي هذا الصراع الحضاري، الذي يمثّل الاستعمار الصهيوني لأرض فلسطين بؤرته المركزية. وما يعزّز فكرة هذا الصراع أنه بعد بداية تراجع مرحلة ما كان يُسمّى في أدبيات دول العالم الثالث عصر حركات التحرر الوطني، عملت الصهيونية العالمية على صياغة ونشر مفاهيم جديدة على مستوى لغة ومصطلحات السياسة الدولية، وحتى على مستوى القانون الدولي تحت مسمّى مكافحة الإرهاب، لتجريم حق الشعوب المستعمرة في المقاومة من أجل الحصول على حقها المشروع في الاستقلال والحرية. ورغم كل الجهود التي بُذلت من قبل مختلف دول العالم من أجل تقديم تعريف أممي دقيق ومتعارف عليه على مستوى الهيئات الدولية لمفهوم الإرهاب، فإن الأطراف الغربية رفضت الالتزام بتعريف موحّد لهذا المفهوم المثير للجدل، وفضّلت أن يظل مصطلح الإرهاب مشحوناً ومحشواً بصيغ دلالية متعددة وغامضة تجعله مفتوحاً أمام كل التأويلات السياسية الممكنة، من أجل تنفيذ أجندتها الاستعمارية الجديدة، وخاصة في المنطقة العربية، وهو ما يحاول ترامب تنفيذه الآن.