قمــــــرَ حلـب
د. نضــــال الصـــالح
وحيداً، وبعيداً، أرقبُ الساعةَ المصلوبةَ على الجدار.قبلَ تسع مضتْ كانَ لمثل هذه الليلة نشيدُها الخاصّ. كانَ لنا طقسنا الخاصّ. كنّا، صباحَها، نمضي إلى القلعة، نصعدُ درجَها كما يرفُّ عصفوران في سماء تخصّهما، ثمّ ما إنْ نبلغ مقامَ أبي الأنبياء، حتى كنتُ أشيرُ إلى الخزانة، جانبَ المحراب، حيثُ رأسُ النبيّ يحيى، وأتمنى عليك أن تطلقي طيور الأمنيات من أصفادها الحرون، ولم يكن لكِ من دعاءٍ سوى أن تحفظَ السماءُ حلبَ، وتحفظني لكِ، ثمّ تورقُ ابتسامةٌ في شفتيك، وتكملين: وأن تؤبّدني في حياتكِ، فلا يرفّ جفنٌ لي جهةَ صبوحٍ غيركِ، وكنتُ، ملءَ روحي، أضحكُ، ثمّ أحتضنُ وجهكِ براحتيّ، وأمرّر شاهدةَ يُمناي على كرومه، جنائنه، ثمّ أعدّدُ: أنّى لحوّاءَ سواكِ مثلُ هاتين العينين؟! هذين الخدّين؟! هذا اللمى؟!.. ثمّ تستحلفينني باسمها، حلبُ، أن أفيَ لكما معاً، حلبُ وأنتِ، ثمّ تستدركين: بل أنا وهي، فأقسمُ، كما أفعلُ كلَّ تهجّدٍ في ملكوتِ السحْر فيكِ ومنكِ، حتى يصّاعدَ الترتيلُ: “ولسوفَ يعطيكَ ربّكَ فترضى”.
تذكرين؟ بينما كنّا نصعدُ الدرج، ومهما يكن من أمر الشمس الضاحكة في الأعالي، كنتِ تطلقين عينيك نحو السماء، وتقسمين أنّك ترين قمراً في صدرها هناك.. هناك، ثمّ تغنّين: “يا قمر حلب هدّي”، وكنتُ أهصرُ خصركِ، وأقولُ: “خدّكِ، شَعركِ. عيناكِ”، ثمّ أضيفُ: “وتلك الشامةُ التي تتوسّدُ بستانَ الغواية هناك”، أعني.. فيتفتّقُ الجوريّ في بستان وجهك حتى يتورّدَ كتلك الجوريّة التي أهديتُها إليك ذاتَ صباح. الليلةَ، وحيداً وبعيداً، أرقبُ الساعةَ المصلوبةَ على الجدار، ولا ملاذَ لي سواكِ. سوى الذكريات، سوى هذه الكتب المبعثرة حولي، والمتعبة بي لكثرة ما قلّبتُ فيها من الصفحات. من كتاب إلى كتاب أمضي، ومن صفحة إلى أخرى، حتى أبلغ السنة الثالثة بعد المئة الثامنة للهجرة. حتى يدركني ابن تغري بردي في كتابه “النجوم الزاهرة..” ببعض ما كابدت حلب حين غزاها المغول.
أقرأ: وعندما اقتحمَ عساكرُ تيمور حلبَ أشعلوا النّيران فيها، وأخذوا في الأسر والنهب والقتل، فهربَ سائرُ نساء البلد والأطفال إلى المساجد، فمالَ أصحابُ تيمورَ على النساء، وربطوهنّ بالحبال، ثم وضعوا السيف في الأطفال، فقتلوهم بأسرهم، وشرعوا في تلك الأفعال القبيحة على عادتهم، وصارتِ الأبكارُ تُفتضّ من غير تستّر.. ثم بذلوا السيفَ في عامة حلب وأجنادها حتى امتلأت الجوامعُ والطرقات بالقتلى.
عساكرُ تيمور الجُدد. تيمورُ الذي تناسلَ، فتكنّى بـ”الثورة”. عساكرُه الذين تناسلوا، فتكنّوا بـ”الثوّار”. أنا المصلوبُ الآنَ على جدار الحنين إلى زمنٍ كانَ. إليكِ. إليهما، حلبُ والقلعةُ. أرقبُ الساعةَ المصلوبةَ مثلي على الجدار، ثمّ يضيء العاجل: الجيش يبسط سيطرته على كامل ريف حلب الجنوبي.
الآن، أناديكِ، أناديها، فتردّدُ حجارةُ القلعة: يا حبيبي. ثمّ ينهمرُ صوتُكِ مِن أعلى القلعة: أغارُ، أغارُ. تعرجينَ إليّ من عليائك، عليائها، وأقسمُ، رأيتُنا. كنّا نتخاصرُ، نملأ الساحةَ بالرقص، ويتردّدُ من غير جهة من القلعة: يا.. يا قمر حلب.