مم يشكو الفل؟!
محمد راتب الحلاق
اخترعت بعض الشركات عيد الحب لتبيع منتوجاتها ذات اللون الأحمر القاني، حتى وإن كانت تلك المنتوجات ذات علاقة ملتبسة وغير مفهومة بالحب، كالدب الأحمر. ومن غير المفهوم الإصرار على اللون الأحمر حتى في الورود، فمم يشكو الفل والياسمين؟. وهو عيد لم يكن شائعاً في منطقتنا بالشكل الذي نراه الآن، قبل وصول البث الفضائي الممول من تلك الشركات عن طريق الإعلانات. وفي مدينتي حمص كان يسمى هذا اليوم (عيد القطط) ليس ازدراءً وإنما لأنه يأتي في موسم تزاوجها، كما يسمى أحد( خمسانات الربيع) في حمص (خميس القطط) لأنه موسم توالدها. أما أن يخصص يوم للحب باسم القديس (فالانتاين) شفيع العشاق يحتفل فيه العالم بأسره فأمر جميل لا يدركه أصحاب الأكباد الغليظة الذين لا تهمهم هذه العاطفة النبيلة.
وأزعم بأن الحب هو المحور الرئيس الذي تدور حوله الفنون والآداب، وما سوى الحب ﻻ يعدو أن يكون أعراضا جانبية للحب، تومئ إليه بصورة مباشرة أو من وراء حجاب. ومنذ البداية ومن دون أية مقدمات أجرؤ على القول:
إن الحب بتجلياته المختلفة يرتد في النهاية إلى العلاقة بين الرجل والمرأة، دون أن يعني ذلك المماهاة بين الحب والغريزة الجنسية بطبيعة الحال، فالرغبة ليست الشرط الكافي لقيام علاقة الحب التي أتحدث عنها. والحب ظاهرة إنسانية مركبة ومعقدة، ﻻ تعرف وإنما تعاش، ومن خلال المعاناة يدركها الإنسان (حسب ابن حزم في طوق الحمامة). وقد يكون من المفاجئ أن أقول إن العلاقة بين المحب والمحبوب تقوم على الأنانية والرغبة في الاستحواذ وليس على الغيرية والعطاء (كما هو شائع)، وكل طرف في هذه العلاقة يحاول أن يمتلك اﻵخر. ويصل هذا الاستحواذ إلى الدرجة التي يستطيع أن يقول فيها كل منهما للآخر: يا أنا (حسب الرسالة القشيرية) أو أن يقول صادقا (ياروحي) حسب التعبير الشائع.
وعلاقة الحب أرقى درجات العلاقات بين البشر، فالمحبوب في عين حبيبه يختصر الوجود كله، بل إن عشق المحب لمحبوبه يحاصره، ويمنعه من إقامة علاقات عابرة مع الآخرين، لأنه لن يجد الأمان إﻻ معه. مع العلم بأن حالات عليا من الحب لم تعرف اللقاء بين الحبيبين وإنما تم تصعيد اﻷمر والتسامي به إلى آفاق تعجز اللغة عن وصفها، الأمر الذي يذكر بالعشق الصوفي.
ثم إن الحب ﻻ يقوم على مقدمات يلزم عنها نتائج. ومن هنا يمكن أن نفهم العبارة الدارجة (الحب أعمى) التي اعتاد الناس أن يرددوها في كل مرة يعجزون فيها عن تفسير العلاقة بين عاشقين، ﻷنهم ينظرون إلى تلك العلاقة بعيونهم هم ﻻ بعيون العاشقين.
نعم قد يكون الجمال مما يلفت النظر ومما تتزين به المجالس لكنه ﻻ يرتقي ليكون موضوعا للعشق ولا سببا له، ذلك أن تذوق الجمال والاستمتاع بالأشياء الجميلة شيء أما الحب الذي أتحدث عنه فشيء آخر مختلف. يقول ابن حزم في كتاب طوق الحمامة (لو كان علة الحب حسن الصورة الجسدية لوجب أﻻ يستحسن اﻷنقص في الصورة). ونحن نجد كثيرا ممن يؤثر اﻷدنى ويعلم فضل غيره وﻻ يجد محيدا لقلبه عنه.
وأخيرا أقول إنه وبسبب اﻹكراهات المجتمعية نجد أن الرجل هو اﻷكثر تعبيرا عن مشاعره من المرأة مغ حبها الشديد لمحبوبها:
عيناك شاهدتان أنك من حر الهوى تحدين ما أحد
بك ما بنا لكن على مضض تتجلدين وما بنا جلد