“الهاجس اللغوي”.. الكتاب الضرورة
يتصدى الدكتور “محمود أحمد السيّد”، صاحب الباع الطويل والدراسات المعمقة بعوالم اللغة العربية، في كتابه “الهاجس اللغوي”، الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب 2019، لمجموعة من القضايا اللغوية الشائكة، بتناوله العديد من الجوانب المركبة التي تتضمنها مفردة “هاجس” – جمع هواجس-والتي تعني: “مَا يَخْطُرُ مِنْ أَفْكَارٍ أَوْ صُوَرٍ بِبَالِ الْإِنْسَانِ نَتِيجَةَ قَلَقٍ أَوْ حَيْرَةٍ أَوْ هَمٍّ أَوْ تَخَوُّفٍ مِنْ شَيْءٍ مَّا”، في شأن جسيم كالشأن اللغوي، فاللغة هي الهوية الحقيقية لأبنائها، ولم تأت عبارة “أبناء لغة واحدة”، من الفراغ، فاللغة الواحدة أم لكل أبنائها الذين ورثوها أبا عن جد، حتى أنها تتسع في رحابتها، لمن ينطقها، فيشمله لطفها ويتمتع ببعض من دلالها.
يأتي الدكتور “السيد” في مقدمته الرشيقة للكتاب، على توضيح وتفصيل وتبيان هذا “الهاجس”، وذلك بوضعه تداعيات ما يؤرقنا من انخفاض مستوى الأداء اللغوي واقعنا العربي، إن كان في العملية التعليمية أو خارجها، فهو يراه ليس بالصورة المرغوب بها، وهو يتلطف إذ لا يُعظم من هول هذا التوصيف، ربما بقصد عدم الترويع، وهي خطة لغوية ومعرفيّة محكمة، خصوصا وأن الحديث في تراجع المستوى اللغوي العربي عند عموم أهل الضاد، يعني مزيدا من الفرقة وازدياد الانقسام حدة، وفي هذا حرص بليغ على المعنى الأسمى للغة العربية، بكونها لغة جامعة، وأي خطب يعتريها، فإنه بالضرورة سيعتري أهلها، وهذا الواقع العربي، ينبئنا بما صارت إليه الأحوال، من شتات وجداني، عملت على حفظه من الفرقة سيدة اللغات طويلا، من خلال قامات أدبية وفكرية وفلسفية، أعملت إبداعها في إعلاء شأن بيانها ونحوها، بما تركته من أعمال خالدة في بديع هذه اللغة، وفي مختلف ضروب الأدب والفكر، الفنون والرياضيات، الفلسفة والدراما المسكوبة في قوالبها، وفي غيرها من الأشعة التي تصدر عن تلك الشمس البازغة السطوع، ريانته.
يلفت المؤلف إلى المحاولات التي جرت في القرن الماضي، والتي عملت على تجديد اللغة العربية، والسعي إلى تيسيرها نحوا وبلاغة، وفي العمل أيضا على إغناء معاجمها، إن كان بالدلالات والمصطلحات الضرورية، فالتجديد في اللغة، ورفد خطابها وسياقها بوعي يواكب التطورات الهائلة التي جاءت مع التطورات التقنية والتكنلوجيّة، وكيف انعكس هذا التطور على مختلف وأهم لغات العالم، حتى أن السائدة منها اليوم فوق كل اللغات، هي اللغة الإنجليزية، وهذه اللغة يقوم الاقحاح فيها كل 60 عاما لمن لا يعرف، بتحديث لغوي للكتاب المقدس ذاته، إنه إن لم يفعل ذلك، فلن تفيد كل العظمة اللغوية الجاثمة في مؤلفات أخرى، لأنها صارت من عالم آخر، على جعل اللغة المكتوب فيها، هي اللغة السيدة والسائدة، الفنون المتفوقة اليوم فيها، الأدب العالمي على اختلاف أجناسه، يُترجم إليها لينتشر، ومن يحكم وعي الناس؟ الآداب والفنون والنص المقدس.لكن هذه المحاولات التجديدية، ستقابلها معارضة شديدة من التيار “المحافظ”، الذي رفض ووقف ضد هذا التجديد، مستنكرا كل حججه وأدلته الدامغة على الحاجة إليه!
يزيد الطين بلة، غياب التنسيق العام في المجال اللغوي، فالنجاح في عمل ضخم كالتجديد اللغوي، يتطلب وفق رأي المؤلف التعاون والتنسيق والتكامل أيضا في الجهود خدمة للغة، والسعي للارتقاء بها والعمل على تجاوز مشكلاتها، هذا الجهد، لا تحمله كفة واحدة، إنه بحاجة لكفتيّ الميزان ولسانه أيضا، ميزان اللغة الدقيق ولسان بيانها الضامن.
أيضا غياب السياسة اللغوية، وانعدام التخطيط اللغوي في ضوء هذه السياسة، تجلى محليا وعربيا، وذلك أدى لفتور الوعي اللغوي، وتراجعه تجاه الهجمة الشرسة التي تتعرض لها لغتنا، والغزوات الخبيثة التي تعمل للنيل من الثقافة العربية، إن كان على يد أعدائها الخارجيين، أو على من افتتن من أبنائها باللغات الأجنبية، جاعلين منها لغة التقدم والرقي، بعد أن استهانوا بلغتهم الأم، فهي في اعتقادهم لغة تخلف، وهؤلاء أصيبوا بعقدتي التصاغر والتكابر، التصاغر تجاه الأجنبي، والتكابر على الثقافة العربية ولسانها الخالد!
الدكتور “السيد” يرفع منسوب الخطر المحدق، فالأمن اللغوي – بحسبه -، لم يأخذ دوره الطبيعي، في صون لغتنا وحمايتها من الخطوب التي تحيط بها وتكتنفها، وهذا الغياب أيضا، هو بدوره من الهواجس المقلقة والمؤلمة.
تلك بعض من النقائض التي تُعمل مبضعها في لغة الضاد، وغيرها آثر المؤلف ألا يذكرها، متمثلا قول “بدوي الجبل”: “نقائض فينا لم أعدّد جسامها/ ولكنني عدّدت ما هو أجسم/ فإن بقيت فهي التخلف لم يزل/ وإن تقلعوا عنها فذاك التقدم”.
يقع الكتاب في 272 صفحة، منسوجة ببراعة حائك حرير، رشيقة السياق رقيقة المعنى، تجذب القارئ الملول بهدوء وثقة، ليذهب أبعد وأبعد في تلك الهواجس، وهكذا تُصبح مشتركة حقا، فأول شراكة يجب أن يُقيمها كتاب، هي مع القارئ، وإلا فمصير بضاعته الكساد، أيضا هاجس أضيفه لمجموعة الهواجس التي تعرض لها الكتاب، فمشكلتنا اللغوية ليست في عدم وجود كتب، بل إن مصيبة مصائبها هي في تفاقم تلك الكتب الفائضة عن كل حاجة!
تمّام علي بركات