“الحكمة لمن يبحث عنها”.. قل نعم للحياة !!
كيف تكون ذاتك وتتوافق مع العالم؟ كيف تصبح أكثر حباً وصاحب فضائل؟ كيف تجد طريق التحرر الداخلي؟ كيف تكبر على مستوى الفرح وتجد الصفاء؟ وغيرها الكثير من الأسئلة التي أجاب عنها بإخلاص وبساطة المؤلف فريدريك لونوار في كتابه “الحكمة لمن يبحث عنها” الذي ترجمته عبير حمود ضمن منشورات الهيئة العامة للكتاب، وقد بدأ لونوار بحثه في الحكمة منذ سن المراهقة ويقودنا بدوره على خطى ملهمين عظماء عبر كتاب واضح ومكثف.
يبحث الكتاب في الحكمة وهو بحث شديد الاحتياجات يتطلب اكتساب ثقافة وتعمق في التفكير وحسن استخدام العقل والإرادة وإعادة توجيه الرغبات بشكل صحيح، وهو بحث طويل وشاق بالنسبة إلى تناقضات ما يبيعه دجالو السعادة المعاصرون من وصفات سهلة وسريعة، وتحاول الحكمة أن تعطي معنى آخر للسعادة بأنها لم تعد تتمحور حول المفهوم البسيط لحب الحياة التي نعيشها، بل هي حب الحياة في مجملها وفي كل أحوالها في صعودها ونزولها في لحظاتها الملائمة وغير الملائمة مع نصيبها من الفرح والحزن، فهدف الحكمة هو محبة ما هو موجود، ويؤكد لنا لونوار أن أهم شيء في حياتنا القصيرة هو تعلم العيش بطيبة وذكاء لنحيا بأفضل ما يمكن ونكبر إنسانياً ونكون سعداء بعمق وأكثر فائدة للآخرين، فنتغلب على الآلام التي تظلم روحنا وتسمم علاقتنا مع الآخرين وهذا ما نسميه بالحكمة أي الميل نحو المثل الأعلى لحياة نبيلة وواعية وواضحة ومسؤولة ومتناغمة وحرة، لذلك فالحكمة هي مثل أعلى نسعى إليه أكثر من كونها هدفاً يجب أن نبلغه بأي ثمن كان، وهي تعني أننا نقوم باختيار هدف جوهري يمكن له أن يغير حياتنا فنتعرف إلى ما هو ضروري وما هو غير ذلك، علماً أن من يبحث عن الحكمة يبحث عن التقدم والنضج وتطوير قدرات الذكاء والإبداع والطيبة الموجودة في داخله، كما يبحث أيضاً عن الالتزام بتحسين مصير العالم الذي يعيش فيه، المهم حتى وإن لم نمتلك الحكمة هو الرغبة فيها والإرادة لتغيير وتطوير أنفسنا، وحين يتطلع المرء إلى الحكمة لا يطمح إلى أن يصبح بطلاً روحياً وأن يكون أكثر تجسيداً للقيم بين البشر بل يكون ذلك عندما يقبل حدود الحكمة وهشاشتها وضعفها باختصار إن بحث الحكمة هو طريق الإنسانية وتقبل الموجود، وفي الواقع تشكل قضية السعادة جوهر كل تيارات الحكمة الإنسانية العظيمة، جميعنا نطمح للسعادة مهما يكن الشكل الذي تأخذه لكننا أيضاً نعيش تجربة صعوبة الاستحواذ عليها، ومنذ اللحظة التي نفكر فيها في أننا نستطيع الاستيلاء عليها تهرب منا، أحياناً تختفي حين نتمناها وتنبثق فجأة في لحظة غير متوقعة، ويمكننا أن نكون أكثر سعادة عندما نفكر بالحياة ونشتغل على الذات ونعدل أفكارنا ومعتقداتنا أو الملاحظات التي نكونها عن أنفسنا وعن العالم فالسعادة كما تشير إلى القدر أو الحظ تشير أيضاً إلى كونها عملية عقلية وإرادية، والحكيم يغير رغباته ليجعلها منسجمة مع العالم أي بعبارة أخرى مع الواقع وهذا أفضل من البحث عن انسجام العالم مع رغباته إنه يتعلم حب الحياة بطريقة غير مشروطة لا حين تكون ملائمة بالنسبة إليه فحسب، ونحن بالتأكيد بعيدون جداً عن المفاهيم المعاصرة للسعادة التي تتجه بشكل كبير نحو ما نملك أكثر من اتجاهها نحو كينونتنا فالمثل الأعلى للحكمة ومفهوم السعادة المتداولين هما في الواقع يتناقضان مع نظرة السعادة المعاصرة التي باتت الأكثر انتشاراً في مجتمعاتنا المادية والاستهلاكية أي أن تكون الأفضل والأغنى والأكثر كفاءة وشهرة.
يمكننا القول: إن صفحات الكتاب تخبرنا أن الحكمة تشكل مثلاً أعلى وهدفاً نسعى لبلوغه ولكن لا يمكن لها أبداً أن تتحقق كلياً وفي النهاية هذا لا يهم فما يهم هو التوجه نحوها أي الاشتغال على الذات ليكون المرء قادراً أكثر على أن يكون سعيداً، فالسعادة تتعلق بقسم كبير منها بحظنا في الوراثة والوسط الاجتماعي ولكنها تتعلق في القسم الكبير بأن نشتغل على أنفسنا لنزيد قدرتنا على أن نكون سعداء، إن الحكمة تدعونا للتوقف عن اتهام الحياة أو الآخرين إنها تدعونا إلى أن نمسك بيد الحياة ونفهم أن معظم آلامنا يمكن تجنبها إذا غيرنا التصور الذي نملكه عن أنفسنا أو عن العالم، فالحكمة تعني تحويل الألم إلى هدوء وصفاء وأن علينا جميعاً أن نقول نعم للحياة.
القسم الثقافي