التعميم..!
حسن حميد
دائماً، ينعى العارفون التعميم الذي تقول به ألسن منفلتة، وتدعو إليه عقول غير باصرة، وتسعى إلى تجسيده الأيدي التي فارقها الحذق، فالتعميم هو لغة غير الفهامة، وعشاق الضربات الطائشة، وأهل الخبرة التي لم تستوفِ شروطها لتقف بقامتها المديدة.
في روايته المذهلة (جزيرة البطريق) يتحدث الكاتب الفرنسي الشهير أناتول فرانس عن التعميم بوصفه صنعية لا علاقة لها بالعقل والعلم، ففي البلدة التي يعيش فيها الكاهن الذي عُرف بسيرته المحمودة، ونظراته الصائبة، وحنانه الوافي، وعشقه للمحبة، جاء من يقول له إن في الجوار جزيرة مهمة، وفيها خلق بشري يتطلع كل واحد منهم إلى حضوره من أجل أن ينال شرف التعميد، وعليه أن يذهب إليهم لتعميدهم، فقال لهم: لعلهم كثر! قالوا: نعم؟ قال أنا عجوز، ومن الصعب عليَّ أن أعمّد الجميع، لعلي سأنفق ما تبقى من عمري في تعميد هؤلاء، مع أنني لم أعرف طوال حياتي أحداً من البشر يسكن الجزيرة. قالوا له لا.. إن سكانها كثر، وهم بحاجة إلى التعميد. فقال: سأمضي إليهم، ولكن كيف لي أن أعمّد الجميع، فكروا معي، ففكروا واقترحوا عليه أن يملأ دلواً كبيراً بالماء، وأن يضع فيه غصناً من الزيتون، وأن يقدّس الماء بما يريد من الدعوات والكلام والرجاءات، وأن يجمع خلق الجزيرة في مكان واحد وأن يرشهم بالماء، وأن يحرص على أن يصل نثيث الماء إلى كل واحد منهم، فوافق الكاهن، وأخذ برأيهم، وانتظر تحسن صحته ليقوم بمهمته الكبيرة والمنتظرة. وحين أحس بالعافية، أخذ قارباً صغيراً ودلواً كبيراً علاه غصن زيتون وارف الخضرة، ومضى، وفي طريقه إلى الجزيرة، اضطربت الأحوال الجوية، فأحاط به الغيم ودنا، ولفّه الضباب حتى أغلق عليه الجهات، ومع ذلك واصل سيره، وحين وصل إلى الجزيرة، كان المطر غزيراً جداً، والضباب كثيفاً جداً، والغيوم تجلت له كأنها بيوت، ولم ير خلقاً من البشر في انتظاره لأن الظلمة كانت حالكة، ما أدركه هو بعض الأصوات التي لم يميزها، وقد ظنّ أن أحداً من أهالي بلدته أخبر أهالي الجزيرة لكي يتواجدوا في وقت وصوله، وأن صمتهم هو صمت الاحترام والإجلال لشخصه، لذلك، ووسط العتمة المطبقة، والمطر الغزير، والضباب المدلهم العابس، راح يرشق كل من هم قربه بالماء المغموس بأوراق الزيتون (الزيتون الذي يحقد عليه جناة العصر وطغاته فيقتلعون شجره من الجذور لأنه شجر القداسة والشروق والزيت المبارك) ويدعو الله أن يكون سكان الجزيرة من المؤمنين المباركين المشمولين برحمته ورعايته، وراح أمامهم يعتذر لأنه تأخر في مجيئه إليهم! وعاد من دون أن يصافحه أحد أو يكلمه أحد منهم، ومع ذلك عاد مغموراً بالرضا لأنه أدى مهمته على أحسن وجه في ظروف سيئة مكفهرة!
وحين وصل إلى مقر إقامته، سأله الناس عن غيابه في ظلّ الأحوال الضبابية، الماطرة، والعتمة الفضية التي لا تفصح عن شيء، فقال لمن هم حوله إنه كان في الجزيرة القريبة من بلدته، وأنه عمّد أهلها، وأن الرضا يملأ قلبه الآن! فسرت الوشوشات والهمهمات.. وصمت الجميع، وقد قرّ في أذهانهم أن عليهم التأكد من وجود البشر في الجزيرة، فذهبوا إليها حين توقفت الأمطار، وانقشعت الغيوم، فوجدوا أن لا أحد من البشر في الجزيرة وأن الكاهن قام بتعميد ما فيها من الكائنات والعجماوات! وفي هذا الأمر ما فيه من مخاطر وأخطار! وعادوا للكاهن وقالوا له إنه عمد الكائنات غير البشرية في الجزيرة، وفي ذلك خطيئة لأن كل من تعمّد سيدخل الجنة، وبذلك ستمتلئ الجنة بالكائنات المتوحشة والخطرة على وجود المؤمنين الذين دخلوها! وبذلك أنتجت هذه الحادثة أمرين، أولهما: أن يكون التعميد بالتغطيس وليس بالرش، وثانيهما: رفع الأماديح التي تثمن التعميم وتنادي به، لأنه غير ثمين ولا يحاكي الفطرة، ولا الحس السليم.
Hasanhamid55@yahoo.com