من وحي استكمال تحرير حلب
د. إبراهيم علوش
مهما كانت المعاناة اليومية التي يعيشها المواطن السوري، فإنها لن تصل حتى إلى بعض ما يكابده الجندي العربي السوري من زمهريرِ شتاءٍ وشظفِ عيشٍ تحت سقف السماء، وهو ماضٍ نحو النصر أو الشهادة على ثغور إدلب وحلب أو في مواجهة العدو الصهيوني. وبالإضافة إلى كل ما قيل وكُتب عن أهمية استكمال تحرير محيط مدينة حلب وريفها، لا سيما من حيث دحر المشروع العثماني التوسعي، فإن هز هيبة الجيش التركي، ثاني أكبر جيش في حلف الناتو، بات من العلامات الفارقة لحملة الجيش العربي السوري في شمال غرب سورية، بعد أن قامر فيها أردوغان معتقداً من صميم ورم أناه العثمانية العليا أن مجرد زج جيشه في الميدان سوف يدفع الدولة السورية للتراجع، من دون أن يستوعب أن صبر سورية على عدم التزام النظام التركي بتنفيذ بنود اتفاقات سوتشي وآستانة لم يطُل عجزاً، إنما لسد الذرائع، ولكسب الحليفين الروسي والإيراني المعنيين بإبقاء خطوطهما مفتوحةً مع النظام التركي، في صف سورية تماماً، وبما لا يترك لديهما مجالاً للشك في أن أردوغان يماطلهما ويخادعهما، وفي أن الطريقة الوحيدة للتعامل مع العصابات الإرهابية والتكفيرية التي يدعمها العثملي هي “الدعس”.
لعبة الرقص على الحبلين الروسي والأمريكي وصلت إلى نهايتها المأساوية عندما قفز أردوغان عن شبكة الأمان الروسية إلى أوكرانيا معلناً بالفم الملآن إن شبه جزيرة القرم لأوكرانيا، معتقداً من صميم ورم أناه العثمانية العليا مجدداً أن الروس سيحاولون استرضاءه، من دون أن يستوعب أنه يلعب بالنار، وأن الروس لا يمكن أن يقبلوا بجرحين لكرامتهم القومية، أحدهما في القرم، والآخر بدوس أردوغان على اتفاقات سوتشي وآستانة وباندفاعه المتهور لتوسعة نطاق نفوذ النظام التركي في شمال سورية (وغرب ليبيا) بالقوة، في تحدٍ مباشر للمعادلات التي جهد الروس لتثبيتها بما يجتذب تركيا إليهم ويحافظ على التحالف الروسي مع محور المقاومة عموماً في آنٍ معاً، فيما اندفاعة أردوغان في الشمال السوري، التي ما برحت تصفق لها الإدارة الأمريكية والكيان الصهيوني، توسّع مساحة الملعب الأمريكي إقليمياً على حساب محور سورية – إيران – روسيا، وهو ما يناقض الاستراتيجية العليا لروسيا القائمة على التسامح مع كل اللاعبين الإقليميين مقابل تقليص مساحة النفوذ الأمريكي.
أما إيران فقد عرضت وساطة الأسبوع الفائت، في ظل تصاعد التوتر في شمال غرب سورية، ويبدو أن النظام التركي قلب لها ظهر المجن في البداية، ثم عاد ليستجدي ود الإيرانيين والروس مع وصول وزير خارجية النظام التركي مولود جاويش أوغلو إلى طهران الأحد، ووفد تركي رفيع المستوى إلى موسكو الإثنين، وترافق ذلك مع تصريحات واضحة من الرئيس الإيراني روحاني في مؤتمر صحفي أكد فيها على حق سورية بمحاربة الإرهاب في إدلب، وسيادة سورية على إدلب، وضرورة التزام تركيا باتفاق سوتشي، ويشير عدم انعقاد مؤتمر صحفي مشترك بين أوغلو ووزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، بالتزامن مع تصريحات الرئيس روحاني، إلى عدم حدوث اتفاق تركي – إيراني بصدد إدلب.
استبق الكرملين، على صعيدٍ آخر، زيارة الوفد التركي إلى موسكو بتصريح ناطقٍ باسم الرئاسة الروسية أن “القوات المسلحة الروسية والمستشارين الروس يواصلون دعم القوات المسلحة في الجمهورية العربية السورية في الحرب ضد الإرهابيين”، فيما أكد لافروف من مؤتمر الأمن في ميونيخ أن “الإرهابيين استمروا في قصف مواقع الجيش السوري وقاعدة حميميم الروسية من خلف نقاط المراقبة التركية، الأمر الذي لم يكن ممكنا تركه دون رد، وتصدت القوات السورية بدعم روسي لكل تحرك من هذا القبيل”.
ما لا شك فيه هو أن النظام التركي بات مضطراً الآن للنزول عن شجرة التعالي العثماني العالية إلى أرض الواقع، وأن الحفاظ على ماء وجهه بات يتمثل بالمطالبة بتطبيق اتفاقات سوتشي وآستانة، بعد أن طالت مراوغته وتهربه من تنفيذ التزاماته بموجبهما، محاولاً جعل “نقاط المراقبة” التركية مواطئ قدمٍ لاحتلالٍ تركيٍ جديد، فجاءت حملة الجيش العربي السوري، بدعمٍ من الحلفاء، لتسقِط استراتيجية التسلل التركي من وراء ظهر سوتشي وآستانة، ولتحول “نقاط المراقبة” تلك إلى نقاط ضعف مطوَقة يمكن استهدافها وإبادتها بسهولة إن تجرأ النظام التركي على شن حربٍ مباشرة على سورية. والأمل حقيقةً أن يستمر النظام التركي في ممارسة عنجهيته مع روسيا وإيران حتى يتمكن الجيش العربي السوري، بعد أن انتظر طويلاً، من استكمال تحرير كل إدلب بأسرع وقتٍ ممكن من دون عوائق سياسية أو دبلوماسية.
وإذا كانت قناة “العربية” وغيرها تحاول أن توحي أن التراجع التركي عن خوض مواجهة مباشرة دفاعاً عن العصابات الإرهابية والتكفيرية أتى في سياق اتفاقٍ ضمنيٍ مع روسيا، فإن مثل هذا الكلام لا يأخذ بعين الاعتبار أن النظام التركي يتلوى ألماً وحسرة، وأن خسارته لمواقعه، وتطويق نقاطه بعد تعزيز قواته في سورية، يسيء لصورته ومكانته أكثر مما لو بقي جيشه في تركيا، وأن النظام التركي يخسر الأوراق التي يمكن أن يؤثر بها على “الحل السياسي” في سورية فعلياً، وأنه يتخبط سياسياً في العلاقة مع روسيا، لا سيما في الموقف من صراعها مع أوكرانيا، وأنه لوحده بعد أن أعلن الناتو أنه لن يتورط في حربٍ عسكرية مباشرة إلى جانب تركيا.
أما تكرار القصف الصهيوني على دمشق، بالتزامن مع موقف الناتو الداعم لفظياً فحسب لتركيا في غزوها للأراضي السورية، فقد أتى بمثابة رسالة دعم صهيونية ميدانية للكيان العثماني، المتمدد بدوره على أراضٍ عربية (وكردية وأرمنية ويونانية)، لكن الكيان الصهيوني بدوره لا يملك القدرة ولا الاستعداد على خوض حرب مباشرة مفتوحة إلى جانب النظام التركي، بالرغم من كل التشجيع للتركي، أو التوريط بالأحرى، وهو يعرف جيداً أن محور المقاومة يتحرق شوقاً لتسديد حسابات كثيرة مع الكيان إن تجرأ على فتح مثل هذه الحرب.
بالخلاصة، إن أحد أهم الإنجازات التي حققها استكمال تحرير حلب هي أن الجيش العربي السوري حقق مثل ذلك الإنجاز فيما الإدارة الأمريكية والعدو الصهيوني يراهنان على أن إجراءات الحصار الاقتصادي والعقوبات سوف تفت في عضد الدولة السورية، فكم خاب ظنهما! وهذا يمثل بحد ذاته رسالة سياسية بأن زاد الجيش، قبل “زوادته”، هو عقيدته، واحتضان الشعب له، ومن ظن أن تصاعد انتقادات الموالين للدولة السورية، على وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، بسبب تدهور الحالة المعيشية من جراء العقوبات والحصار وسوء الإدارة والفساد، ربما يساء فهمها على أن الشعب السوري بات أقل وطنيةً وتمسكاً ببلده، فلينظر ملياً كيف يقف أولئك المنتقدون لتدهور الأحوال المعيشية ذاتهم صفاً واحداً كالبينيان المرصوص إلى جانب دولتهم وجيشهم العربي السوري وأسدهم في معركة حلب وإدلب.
إن هذا الشعب وهذا الجيش يعرفان حق المعرفة بأن الاحتلال، أي احتلال، يعاَلج بالمقاومة والتحرير، وهذا هو ما فعله الجيش العربي السوري بالضبط في محيط حلب وريفها وريف إدلب، والشعب من حوله، بالرغم من الحصار والعقوبات وتدهور الأحوال المعيشية. كذلك أتى تصدي الجيش والشعب معاً للأمريكان في إحدى قرى شمال الحسكة قبل أيامٍ بشيراً ونذيراً لما سيأتي. وفي النهاية، يتمثل الحل الجذري للمشكلة المعيشية للمواطن السوري باسترجاع الأراضي والثروات الطبيعية المنهوبة شرق الفرات وغربه، ولا حل جذرياً للمشكلة المعيشية من دون استكمال الاستقلال الوطني، وما دام جرح الكرامة الوطنية ملتهباً بتواطؤ الاحتلالات، وعلى رأسها الاحتلال الصهيوني لجنوب سورية، ولا أقصد بذلك الجولان العربي السوري المحتل فحسب.