ترامب يربك أوروبا استراتيجياً
عناية ناصر
هناك أدلة متزايدة على أن الغرب بمجموعه يجد صعوبة في الحفاظ على الوحدة، وتؤكد المناقشات بين السياسيين والمثقفين البارزين في دول الناتو أن الغرب يعاني من الخلاف والارتباك الإستراتيجيين.
تظهر أحداث السنوات القليلة الماضية أن الأمن أصبح ذا أهمية متزايدة في العلاقات الدولية، وهذا ما يؤدي إلى إضفاء طابع إقليمي جديد على الأسواق ويفاقم المنافسة في الغرب من أجل السيطرة عليها. على سبيل المثال، تحاول الولايات المتحدة جاهدة أن تبقي الصين في أزمة، لكن هذا الهدف لا يتقاسمه حلفاؤها الأوروبيون الذين يريدون التعاون مع بكين في التقدم التكنولوجي. وتسود اعتراضات أولئك الذين يرون في نهوض الصين فرصة اقتصادية رداً على الدعوات القليلة التي ترى أن تهديد الصين يهدّد جميع الدول الغربية.
يعتقد الكثير من المحلّلين أن سلوك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الطائش هو السبب الرئيسي وراء الخلاف الاستراتيجي في الغرب، حيث يتساءل الكثير منهم عما إذا كان يمكن استعادة الثقة بأمريكا كزعيم غربي مطلق بعد رحيل ترامب، والإجابة عن هذا السؤال جاءت بشكل سلبي. حتى لو افترضنا أن غرائز ترامب السياسية صحيحة، فإن عواقب تحركاته تشكّل ضربة قاصمة للتضامن الغربي. انسحبت الولايات المتحدة من الشراكة عبر المحيط الهادئ خلال رئاسة ترامب، على الرغم من أنها قد تكون أداة اقتصادية فعّالة لاحتواء الصين في آسيا. كان من المفترض أن يحاول ترامب فكّ الارتباط السياسي بين روسيا والصين، لكن إدارته تضعهما في المستوى نفسه من حيث التهديدات الرئيسية للولايات المتحدة.
علاوة على ذلك، فُرِضَ خلال فترة ولاية ترامب عدد كبير من العقوبات الجديدة على روسيا، و تستمر العقوبات المفروضة على روسيا حتى يومنا هذا. وعلى الرغم من أن الرئيس الأمريكي لم يبدأها، إلاّ أنه تسبّب بها بشكل غير مباشر. لكن الولايات المتحدة نفسها غارقة في أزمة سياسية عميقة حوّلت بشكل حاد أولوياتها الوطنية من السياسة الخارجية إلى قضايا الاستقرار الداخلي، إذ تراجع الدعم الشعبي لزيادة الإنفاق العسكري والتدخلات العسكرية في الخارج. ويشير المحلّلون إلى أن الأسلحة التي تفوق سرعة الصوت، وتمّ تطويرها حديثاً، يمكن أن تجعل البحرية الأمريكية عديمة الفائدة أو شديدة الضعف.
على الرغم من أن ثورة الغاز الصخري في الولايات المتحدة قد مكّنتها من اكتساب ميزة حاسمة في سوق الطاقة، إلا أن الاكتفاء الذاتي من الطاقة جعلها أكثر استيعاباً لمشكلاتها، لأن الأمن الأمريكي لم يعد يعتمد على التطورات في الشرق الأوسط. والآن بعد أن أصبحت الولايات المتحدة من أكبر الدول المصدّرة للنفط والمنتجة الرئيسية للغاز، لاحظ العالم بالكاد التراجع الحاد في إمدادات النفط من إيران وفنزويلا.
إن ارتباك الغرب الاستراتيجي ينعش بشكل متزايد الأفكار التي بدت مستحيلة قبل عقد واحد فقط. ففي سلسلة من التصريحات الأخيرة، حثّ الرئيس الفرنسي على مراجعة أولويات الاحتواء إزاء روسيا واقترح بدء حوار معها. تستند تصريحات كهذه إلى فرضية أن الغرب يحتاج إلى روسيا للحفاظ على قيادته العالمية. ومع ذلك، فإن هذه الأولوية الإستراتيجية، حتى لو تمّ صياغتها كهدف استراتيجي في مذاهب دول الناتو، تحاط بموجة من التصريحات المتناقضة من جانب هذه الدول، والأهم من ذلك، محاولات التدخل في الشؤون الداخلية لروسيا.
إن الخط الفاصل بين نظام العقوبات المنهجي والإعداد لثورة ملونة ضعيف، وليس هناك ما يضمن أن تصبح العقوبات شيئاً من الماضي كأداة للسياسات الغربية تجاه روسيا في المستقبل المنظور. من الدلائل في هذا الصدد هي تجربة عام 2012، عندما أقنعت إدارة أوباما الكونغرس باتخاذ القرار المتزامن بإلغاء تعديل جاكسون-فانيك والتصويت في اليوم نفسه لاعتماد قانون ماغنيتسكي الذي فرض عقوبات على عدد من الروس رفيعي المستوى. يعتقد المحلّلون الروس أنه سيتمّ تمديد العقوبات ضد روسيا في المستقبل على النمط نفسه، حتى لو تمّ التوصل إلى شكل من أشكال التسوية حول أوكرانيا. كما أن سلوك الولايات المتحدة بشأن الاتفاق النووي الإيراني لا يقدّم شيئاً لإقناع الزعماء الروس بأن الغرب شريك موثوق، فقد أرادت واشنطن في البداية هذه الصفقة، ثم تراجعت عنها لاحقاً وهدّدت بفرض عقوبات ثانوية على أي دولة تتمسّك به.
وإن فكرة ما إذا كان الغرب بحاجة إلى روسيا تثير التساؤل التالي: إلى متى سيحتاج الغرب روسيا؟ أليست روسيا أداة للغرب في مواجهته مع الصين؟ إذا كانت الإجابة “نعم”، فليس لهذه الإستراتيجية مستقبل.
سيكون الاختبار الرئيسي لجدواها هو أنه في حال تطورت الأزمة في روسيا لأسباب سياسية داخلية، فهل ستقاوم الدول الغربية الرئيسية إغراء استخدام النزاع، لدعم الاحتجاج الاجتماعي ودفعه في النهاية إلى ثورة ملونة، كما هي الحال في أوكرانيا؟ واستناداً إلى التاريخ الحديث، فإن الجواب سيكون “لا”.
وإلى أن تدرك الدول الغربية أن التدخل في الشؤون الداخلية أمر غير مقبول بأي شكل من الأشكال، لا توجد أسباب لتوقع حدوث تقدّم في العلاقات بين روسيا والغرب. من الناحية العرضية، يعدّ عدم التدخل أحد الأسس الرئيسية للعلاقات الروسية الصينية، التي وصلت إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية، ومن غير المرجح أن يتمّ الوصول إلى هذا المستوى في العلاقات بين روسيا والغرب.