“شوكة في الحلق” على طاولة النقد
من القيم المضافة لأي عمل إبداعي قدرته على أن يكون محط سجال واختلاف في الآراء ومما يمنح أي ندوة نقدية شيئاً من الخصوصية والتميز عند تناولها لعمل إبداعي ما هو قدرتها على التحريض على خلق ذلك السجال عبر تسليط الضوء على تفاصيل قد لايعيرها القارئ العادي اهتماماً، وهذا ما لمسه كل من حضر الندوة النقدية التي تناولت رواية “شوكة في الحلق” للروائي نصر محسن والتي أقامها المركز الثقافي في المزة وأدارتها القاصة سمر الكلاس.
من العنوان “انتهازية المثقف وصدق المقاوم الأصيل” بدأ د. محمد الحوارني رئيس فرع دمشق لاتحاد الكتاب العرب مداخلته حيث اعتبر أن ما بين رواية “العكاري وشوكة في الحلق” ثمة خيط رفيع يحكم ثقافة وفكر نصر محسن الروائي المنتمي إلى مدرسة الأصالة والهوية الوطنية، فإذا كانت روايته الأولى تحكي قصة نضال شعب قاوم المحتل الفرنسي حتى انتزع النصر فإن الرواية التي بين أيدينا تحكي أهمية الشراكة القومية في تحقيق النصر ذلك أن أبناء الأمة جميعاً تتقاطع أحوالهم لجهة الألم والأمل، لهذا ربما كان هذا التنوع العربي حاضراً في الرواية من خلال شخوصها التي تنوعت بين حضور متنوع – تونسي – فلسطيني- لبناني وتعبّر شخصية سلفادور العربي عن المثقف الانتهازي العاجز عن اتخاذ أي قرار تتقاذفه الآراء وهو منقاد للآخرين يرفع الشعارات البراقة ويعمل في الخفاء عكس ذلك، هو مثال حي للمثقف الذي تتنازعه الأفكار والوساوس حول كيفية الاستمرار في الإخلاص لأفكاره وقناعاته وهو العاجز عن تسجيل أي موقف حقيقي أمام هذه الشخصية التي امتهنت العمل الثقافي والارتزاق منه والمتاجرة بالقضايا المصيرية، لكن أمام هذه الشخصية ثمة شخصيات تفدي الوطن بأرواحها لينعم بالاستقلال. ورأى الحوراني أن الروائي قد نجح في إيصال ما أراده من خلال تمكنه من أدواته الفنية السردية بشكل جيد كما أنه امتلك لغة فنية جيدة وآسرة للمتلقي تمتعت بالحيوية والغنى لتدخل إلى أعماق القارئ، وكل ذلك يكشف عن لغة وثقافة وأصالة المؤلف.
كشف التفاصيل
وتحدث الأديب والإعلامي عماد نداف حول “الحدث البارد والنص الساخن” فذكر أن المثقف كشخصية حضرت كثيراً ولم تغادر النصوص الروائية، وقد تنبه لذلك الكثير من النقاد لهذه الشخصية وهي محملة على ما لا ينبغي أن تحمله في الحياة فهي تظهر مأزومة تلجأ إلى التمرد الاجتماعي والأخلاقي وتقع في دائرة الإدمان والعزلة، وأن نموذج سلفادور العربي العاجز عن محاكاة لوحاته البيضاء مكرر في تجارب أخرى تحدثت عن عجز الفنان على الرسم إلا عندما تحدث الصدمة، وقد أظهر نداف النقيض وكشف عن جوانب كثيرة أبدع فيها المؤلف حيث أكد أن المهارة الروائية في الكتابة ظهرت وكشفت عن نفسها في عنصرين أساسيين أولهما غياب الحدث الساخن في الرواية التي أضحت تشق طريقها بلا حدث آسر يأخذ بيد القارئ إلى النهاية، فالفنان كما هو المثقف عاجز تحاصره الكوابيس والغريب كما يرى نداف أن الكاتب لايلهث وراء الحدث الساخن بقدر ما يسعى لكشف التفاصيل، وهنا يظهر العنصر الثاني وهو المهارة في صنع التفاصيل وهذه الطريقة خطرة في التعامل مع القارئ، ولأنها نجحت في أسلوبه أصبحت نموذجاً مبهراً في الكتابة يحاكي فيه روايات التفاصيل الحديثة وقد أدى غياب الحدث الساخن الذي اعتدنا عليه في مطلع الروايات على حد تعبير نداف إلى البحث عن أداة فنية تقوم بنية الرواية عليها لتصبح قادرة على الإضافة إلى النص الروائي العربي، في رواية نصر محسن نجد أنفسنا أمام تفاصيل مكتوبة بمهارة غير ممل يدفع القارئ للمتابعة.
شخصية غير إشكالية
المحطة الأخيرة كانت مع الناقد أحمد هلال الذي ذهب إلى المستوى الفني للرواية وقدم مداخلة تعنى بالأبعاد الفنية والجمالية فذكر أنه بعد تجربتين روائيتين لمحسن وعدد من المجموعات القصصية يأتي العمل الروائي “شوكة في الحلق” ليس في حيز التماثل والاختلاف مع منجزيه السابقين المطبوعين بالمغامرة الإبداعية المفتوحة وعلى السعي لاقتحام التخوم القصية عبر الأسئلة العابرة للنص الروائي والمدرج لأسئلته الإضافية لا تمس ذلك الشكل من المغامرة الروائية بقدر ما تفتح في أفق المغامرة السردية على ما يعنيه العنوان، أي ضراوة التشكيل السردي في الرواية التي ستحتفظ ببطلها المطلق سلفادور العربي بشير عبد الله أسير هواجسه وماضيه واستلاب واقعه نزوعاً إلى التغيير مع تواتر أحداث الرواية، فنجد أن العنوان هو عنوان لوحة تشكيلية للفنان بطل الرواية ومولد سيرها الأخرى في شخصيات الرواية بما تختزنه الأسماء من دلالات فكرية وجغرافية وإنسانية على خلفية الحب والالتزام وصراع الأفكار، تلك الخلفية الفكرية شكلت مهاد الرواية كما يرى الناقد، كما تحدث هلال عن مستويات التشكيل السردي الذي تنهض عليه الرواية عمارة وتشكيلاً باللغة أي ما بين تشكيل السير الذاتي والتشكيل بالأمكنة والأزمنة مروراً بالتشكيل بالعنونة حيث تبدو الدلالة عبر الزمن الدلالي الذي يعيشه سلفادور العربي وعبر تداخل صوت الراوي الضمني السارد وتداخل الأزمنة أيضاً، إنه زمن الكاتب الذي يقوم على الاسترجاع الداخلي ويتوقف السارد أحياناً ليسند الكلام للشخصيات ويعود هو ليتجاوزها تاركاً لها حرية الكلام مما يتيح للقارئ التجوال بين الأفكار.
المستوى الآخر في هذا التشكيل السردي كما ذكر هلال هو التعالق الشعري في الأسطورة الذي تحاول الرواية تطبيقه بما ينسجم مع نزوع سلفادور العربي إلى الأساطير ونجد ذلك النزوع الخفي ما بين الخيال والواقع ليذهب إلى ممكن جمالي تحتمله الرواية بحوافزها النصية على مستوى الحافز التأليفي والجمالي مما يعني أدبية الخطاب. ويتابع هلال مع طرح سلفادور العربي لم أجد فيها شخصية إشكالية أو مركبة وإنما شخصية تكاد تكون مثال واقع بعينه هذا الواقع الذي ينتظر التغيير من يقوم بهذا التغيير؟ وإذا كانت الرواية تطلق ضوءا كثيفاً ليس على ما يعانيه المثقف من أزمات ذاتية ووجودية، لكنها تقول إن هذا المثقف الذي بنت عليه الرواية متونها السردية غير موجود، لأنه تماماً كلوحته البيضاء التي لا تكتمل وإذا كان موجوداً في الواقع فهو كمثل هواجسه وتخيلاته ربما كان محض فكرة لايكسرها سوى الضوء الناهض من جنوب البلاد ضوء المقاومة.
جلال نديم صالح