حرب الغاز في البحر المتوسط
د. مازن المغربي
إن التحالف، غير المتوقع، بين تركيا وليبيا هو زلزال جيوسياسي غيِّر ميزان القوى في شرقي البحر المتوسط وعبر الشرق الأوسط. وأدّت خطوة تركيا الجريئة إلى إثارة غضب منافسيها في المنطقة، وفتحت الطريق أمام تصعيد مأساوي في الحرب الليبية التي مضى عليها تسع سنوات. كما أجبرت قادة في أوروبا وفي واشنطن على التفكير بكيفية احتواء خطة تركيا للدفاع عن حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من قبل الأمم المتحدة وتوسيع حدودها البحرية من أوروبا إلى أفريقيا من خلال ممر مائي يصل إلى غربي البحر المتوسط ويربط الساحلين التركي والليبي. ويعتقد القادة في أنقرة أن الاتفاق هو ضربة كبرى على المستوى الجيوسياسي بالنسبة للطاقة تساعد في الدفاع عن المصالح التركية السيادية ضد حراس الوضع القائم. لكن منافسي تركيا اعترضوا بشدة فهم رأوا في الاتفاق تطاولاً تركياً يحدّ من قدراتهم على نقل الغاز الطبيعي من شرق المتوسط إلى أوروبا دون عبور المياه التركية. وفي جميع الأحوال، فإن الاتفاق التركي الليبي مهّد الطريق أمام صراع أوسع سيشمل بشكل حتمي كلاً من مصر، والكيان الصهيوني، والإمارات العربية المتحدة، والسعودية، وأوروبا، وروسيا والولايات المتحدة. ويبدو أن جميع الأطراف تخلّت عن القنوات الدبلوماسية، وبدأت الاستعداد للحرب.
ففي السابع والعشرين من تشرين الثاني 2019 وقّعت تركيا وليبيا مذكرة تفاهم ألزمت تركيا بتقديم دعم عسكري لحكومة الوفاق الوطني الليبية. كما أعادت المذكرة رسم الحدود البحرية التركية بطريقة سيكون لها تداعيات درامية على نقل الغاز من شرق المتوسط إلى أوروبا، والأمر الذي يشغل بال الكيان الصهيوني بشكل خاص يتمثّل بأن هذا الاتفاق الجديد سيعيق مخططاته لمدّ أنبوب نقل غاز بطول 1900 كيلومتر يربط حقل غاز ليفياتان بأوروبا. وقد لخصت وكالة أنباء “إينيت” مخاوف الكيان في مقال حمل عنوان “الخطوة التركية قادرة على عرقلة وصول إسرائيل إلى البحر”، وهذا بعض مما جاء في المقال: “شنّ الكيان حربين في سيناء عام 1956 وفي حزيران 1967 بسبب مسألة حقوق الملاحة. وعلى الكيان الانتباه إلى واقع جديد يتشكّل في البحر المتوسط، وعليه التعامل مع الأفعال التركية بوصفها تهديداً استراتيجياً وعليه التفكير بكيفية الاستجابة للوضع.. إن المنطقة الاقتصادية الحصرية الجديدة اخترقت مساحة كبيرة من منطقة شرق المتوسط الغنيّة بالطاقة، مولّدة موجة من الإدانات الدولية جاءت بالمقام الأول من طرف اليونان، ومصر، وقبرص التي يمكن أن تتأثر بشكل مباشر أو غير مباشر.. وتركيا على خلاف مع اليونان وقبرص ومصر حول المنطقة البحرية الاقتصادية. إن قيام أنقرة بإلحاق تلك المناطق بها يقتضي اللجوء إلى محاكم دولية، الأمر الذي يمكن أن يتطلّب سنوات لحلّ الخلاف، وإذا لجأنا إلى تعابير عملية نصل إلى أن تركيا أوجدت حدوداً بحرية تمتد على مدى عرض البحر المتوسط”.
إن التحليل الذي نشرته المجلة الشهيرة “فورين آفيرز” لم يكن أقل تحفظاً حيث جاء فيه: “خلطت تركيا بين أزمتين في البحر المتوسط في محاولة يائسة لإعادة تشكيل المنطقة لمصلحتها، الأمر الذي يمكن أن يولّد تداعيات مقرفة محتملة بالنسبة لكل من الحرب الدائرة في ليبيا ولتطور وضع الطاقة في المستقبل في منطقة شرق البحر المتوسط”.
إن مدّ يد تركيا المفاجئ باتجاه حكومة ليبيا المعترف بها دولياً قد انتهى باتفاق رسمي تقوم أنقرة على أساسه بتقديم دعم عسكري يتضمن الأسلحة، وربما إرسال قوات بهدف التصدي للقوات المدعومة من روسيا في القسم الشرقي من البلاد.
وجاء الاتفاق العسكري بعد بضعة أسابيع فقط على توافق تركيا وحكومة الوفاق الوطني الليبية على تقاسم معظم المنطقة الغنية بالطاقة الواقعة بين البلدين، الأمر الذي يهدّد بحرمان اليونان وقبرص من منجم ثريّ.
ففي حين أنه من المرجح أن تؤدي التطورات الجديدة إلى تسعير القتال على الأرض الليبية، لكنها تحمل أيضاً بذور انقسامات عميقة في المنطقة، حيث يتمّ تشكيل تحالفات جديدة ورسم خطوط قتال جديدة. ونجد في الجانب الأول محور تركيا- ليبيا، وفي الجانب المقابل اليونان، والإمارات المتحدة، والسعودية، ومصر، والكيان الصهيوني، وفرنسا، وألمانيا، والمملكة المتحدة، ومن المحتمل أن تقف معه الولايات المتحدة على الرغم من أن إدارة الرئيس ترامب لم توضح حتى الآن موقفها. وفي جميع الأحوال فإن الحرب بين الحكومة الليبية المعترف بها دولياً والجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر لا تعدو أن تكون جزءاً صغيراً من صراع أوسع بكثير حول منطقة في البحر المتوسط ذات موقع مهم استراتيجياً وغنية بالهيدروكاربونات. وإليكم مقطعاً من مقال من موقع (وور أن ذا روكس) سيساعد في فهم المخاطر القائمة: “إن اكتشاف مكامن ضخمة للغاز الطبيعي في شرق المتوسط في 2009 كان بمثابة تغيير واعد قلب الوضع الجيوسياسي في الإقليم، حيث دفع باتجاه تحالف جديد غير متوقع بين الكيان الصهيوني، واليونان، وقبرص، ومصر بحيث تزيد من فرص اكتفائها الذاتي من مصادر الطاقة.. إن مكمن الغاز الواقع في حقل “ظهر” المصري، وحقلي ليفياتان وتامار في المياه الإقليمية في جنوب الساحل الشرقي للبحر المتوسط، وحقل أفرودايت قرب جزيرة قبرص، حيث عُثر على احتياطات من الغاز الطبيعي قُدّرت بمئة وعشرين تريليون قدم مكعب، أضاف عاملاً جديداً فرض تداعيات إستراتيجية لا تقلّ ضخامة عن ضخامة الاكتشاف”.
وتقارب هذه الكمية مخازين الغاز الطبيعي المثبتة في العراق كله، ويُقدّر أن حقل ليفياتان الذي يحتل المركز الثاني عشر على مستوى الأرض يحتوي 22 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي القابل للاستثمار، إضافة إلى نصف مليون برميل من النفط. ومن المرجح أن تؤدي المناورة التركية إلى دفع منافسيها لتعزيز دعمهم لـ حفتر الذي تسيطر قواته حالياً على أكثر من 70% من الأراضي الليبية، في حين يعيش قرابة 60% من الشعب تحت حكم الوزير الأول في حكومة الوفاق الوطني فائز السراج.
إن الاتفاق التركي الليبي هو محاولة خسيسة لفرض حدود بحرية ملائمة لتركيا على البلدان الأخرى المطلة على البحر المتوسط، وبطبيعة الحال لن تسمح واشنطن بتمرير قرار نشر قوات بقرار أحادي الجانب. وفي حين لم يتمّ حتى الآن الإعلان عن إستراتيجية واشنطن، هناك العديد من المؤشرات على أن مؤسسة السياسة الخارجية أخذت على حين غرة بالإعلان التركي الصادر في السابع والعشرين من شهر تشرين الثاني 2019، ولا يعني هذا أن واشنطن ستقبل الوضع القائم بل على العكس، حيث إن مخططي الحرب في الولايات المتحدة يقومون دون شك بوضع اللمسات النهائية لإستراتيجية جديدة تهدف إلى إنجاز أهدافهم في ليبيا، بينما يتعاملون في الوقت ذاته مع ضربة لاذعة من قبل حليف في الناتو صار يغرّد خارج السرب، ويسبّب حالات صداع لا تنتهي في سورية، ويعرقل الآن خطط واشنطن للسيطرة على الموارد الحيوية في شرق البحر المتوسط.
وترى واشنطن في السياسة الخارجية التركية الحازمة إشارة على “تحدٍّ” يتطلب رداً فولاذياً. لكن أي هجوم على تركيا أو على مصالحها لن يؤدي إلا إلى تسعير التوتر القائم بين أنقرة وواشنطن، وإلى توليد مزيد من الضغط على حلف الناتو المبتذل، وسيدفع الرئيس التركي أردوغان ليذهب أبعد باتجاه موسكو. وفي الواقع فإن على إدارة الرئيس ترامب أن تعي أن ردة فعل مبالغ بها من قبلها يمكن أن تؤدي إلى إعادة اصطفاف مصيرية يمكن أن تعيد تشكيل المنطقة وتسرّع عملية فرض نظام جديد!.