ما بعد حلب الكبرى
سريعاً أصبح سؤال ما بعد “حلب الكبرى” سؤالاً راهناً، ومركزياً، بل ومعضلة كبرى مطروحة بإلحاح على طاولة الرجل الحائر في أنقرة، سؤال كان يعرف في قرارة نفسه أن زمنه آت لا ريب فيه، ومعضلة كان يعلم أن معادلاتها لن تُحلّ إلا باللغة العربية، لكنه حاول بكل ما يملكه من أوراق، ويختزنه من أوهام، إلغاء السؤال بالكامل، أو تأجيله لمرحلة لاحقة، كأضعف الايمان، بيد أن الأمر لم يفلح. لم تصمد “جماعاته” الكثيرة المتعدّدة التسميات، والمتشابهة في الجوهر، أمام الإرادة السورية. لم تستطع حربه النفسية أن تحقق أهدافها، ولا صراخه العالي أن يغطي على هدير محركات الدبابات السورية وهي تتقدّم ساحقة، تحت جنازيرها المعدنية، آماله وأوهامه وتهديداته بالمواجهة، وأكثر من ذلك لم يغيّر التدخل المباشر لجيشه في المعركة حرفاً واحداً من نهايتها المحتومة.
حائر هو، يعلم علم اليقين أن السوريين أجابوا بكفاءة عالية على سؤال حلب الكبرى، وأبعد من ذلك يعلم علم اليقين أنهم سينسخون إجابتهم هذه ليطبقوها على سؤال “ادلب الكبرى” القادم حتماً، وأنه، في ظل الظروف الجيوسياسية الحالية، لن تكون إجابته هنا إلا استنساخاً حرفياً لإجابته على سؤال حلب، وأن في ذلك مقتله السياسي، لأنه، في فورة الحلم العثماني، الذي راوده عام 2011، أغرق المراكب مع الجميع، وألقى بمبادئ مفكره، “داوود أوغلو”، الشهيرة في المجهول، فلا “سياسة خارجية متعدّدة البعد”، ولا “تصفير للمشاكل”، ولا “دبلوماسية متناغمة”، لتحلّ محلهم الغطرسة الشخصية ووهم القوة والدور، المترافقين مع قراءة قاصرة للأحداث والتطوّرات، فأصبحت سورية، وغيرها من الدول الأخرى، في عرفه، شأناً تركياً داخلياً، وبالتالي فإن معالجتها ركن أساس في استمرار سلطته في الداخل، لذلك لم تخرج سياسته فيها عن المراوحة بين حدين، إما الحلّ على الطريقة العثمانية، وإما المراهنة على “اللاحل” واستمرار المأساة كما يفعل في قضايا الداخل المعقّدة، وذلك جوهر مطالبته بالعودة إلى ما قبل التطوّرات الميدانية الأخيرة.
والحال فإنه لا يمكن قراءة، وفهم، الموقف الأردوغاني الحائر والمتوتّر تجاه سورية، وغيرها، في هذه المرحلة المفصلية من الحرب فيها، وعليها، دون استخدام المفاتيح الصحيحة لشخصيته المتمثّلة بالطموحات السلطوية التي تستند إلى خلفية طورانية معدّلة لا تكتفي بتوحيد أبناء العرق التركي، كما في نسختها الأصلية، بل تضيف إليها أطماعاً عثمانية توسعية احتلالية تتزاوج في الآن ذاته مع انتماء إخواني شعاره “أستاذية العالم” يرفده حافز شخصي أوهمه أنه “الأستاذ” الوحيد المؤهّل، والموعود، ليكون المرشد الجديد، لكن الجامع بين شخصية “حسن البنا” ودوره، مع أفكار “سيد قطب” الجهادية ودوره، مكتفياً من “محمد مرسي” بمنصبه الرئاسي فقط.
لذلك كله لن نستغرب يوماً أن نرى “الباب العالي”، الذي خسر “ولاية حلب” بعد “ولاية مصر”، ولازال طامحاً باستعادة “الأمانة العثمانية” في ليبيا، يربط رأسه بالعصبة الحمراء متدخلاً لحماية “الجهاز السري” وقائده “الجولاني” في “قاطع” إدلب، لكنها عصبة لن تعصمه من مصير محتوم لأسباب عدة، فالظرف التاريخي اليوم لا يشبه بأي حال زمن “محمد الفاتح” بل هو أقرب إلى توترات ما قبل الحرب العالمية الأولى وما تلاها من نتائج على غرار “سيفر” التي كانت المسمار الأخير في نعش الإمبراطورية العثمانية.
والأمر فإن الوقائع، لا الأوهام ولا رهانات البعض، تقول بأن “أردوغان” لا زال يتهرّب من الإجابة الحقيقية على سؤال ما بعد حلب الكبرى، وهي إجابة بسيطة للغاية، مفردتها الأولى، الاعتراف بمسؤوليته المباشرة عن دم العلاقات المغدورة مع دمشق أولاً، ومفردتها الثانية، التسليم بسيادة سورية الكاملة فوق أراضيها، والعودة إلى سياسات التشبيك لصالح الأمن القومي والاقتصادي والاجتماعي للأطراف كافة، لكن قاموس “السلطان” لا يبدو أنه يتضمّنها الآن، ولن يتضمّنها إلا مرغماً بإجابة سورية خالصة، وواضحة، وقادمة، على سؤال ادلب القادم.
أحمد حسن