ذكرى الوحدة .. في مأتم “صفقة القرن”
د. صابر فلحوط
جيل الوحدة، الذي عاش الزمن العروبي الجميل، في خمسينيات القرن الماضي، يدلف اليوم نحو الغروب، حاملاً الذكريات والرايات، أيقونات من عصر الكرامة والشهامة والنبالة العربية.
ونحمد الله أننا لم نودّع هذه الدنيا، على حلوها وزقومها، حتى اكتحلت عيوننا بضوء الوحدة، ممثّلة بالجمهورية العربية المتحدة التي ضمت جناحي الأمة في قارتي آسيا وأفريقيا، كما جمعت تراث الآباء والجدود، أمويين، وعباسيين، وفاطميين، أيام كانت رايات العروبة تزاحم النجوم، مجداً وسؤدداً، وبطولات، بين الصين في أقاصي مطالع الشمس، وإسبانيا في مغاربها، ويوم استطاعت الأمة أن تبعث الحياة والدفء واليقين في صقيع القرون والعصور للعالم أجمع عبر حضارة خلّاقة شهدت لها الإنسانية… وحسبنا أن نذكر أن القائد العربي في بغداد العباسية غداة أهدى إلى “شارلمان” ملك فرنسا يومذاك “ساعة” من صنع علماء العرب، جمع “الملك” مهندسي فرنسا وعلماءها ليكسروا “الساعة” كي يتعرفوا على الشياطين التي تسكن داخلها، وتحرك الزمن فيها !!.
ويوم تنفّس الصبح في أربعينيات القرن الماضي عن فكرة “البعث” التي حملها الحرس القديم من قادة حزب البعث العربي الاشتراكي وجماهيره من المثقفين الثوريين والجنود العقائديين، وكان اللقاء المشهود في منتصف الطريق القومي مع القائد الخالد جمال عبد الناصر وشعب مصر العظيم.. كانت الجمهورية العربية المتحدة التي وصفها قائدها (بالدولة التي تحمي ولا تهدد، تصون ولا تبدد، تشد أزر الصديق، ترد كيد العدو، تريد الخير لها ولغيرها وللإنسانية جمعاء)..
أما جغرافية هذه الدولة، فتتوضع بين المحيط الأطلسي والخليج العربي، في حين تراوح حدودها الروحية حيثما وجد الإنسان المترع بالقيم، والمحصّن بالنبل والكرامة.
وفي ذكرى الوحدة هذه الأيام لا بد أن نستذكر مشاعر الجماهير العربية، واندفاعها نحو الوحدة وطموحاتها حلول الغد القومي المفعم بسيادة الكلمة واستقلالية الإرادة والقرار.
فقد تمكنت الجمهورية العربية المتحدة، وعبر قائدها الخالد، أن تسمو إلى ذرى عالية من الأقدار الدولية عبر القارات الثلاث (آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية) التي ضمت الجزء الأعظم من هذا “الكوكب” لتدين بالإعجاب والإكبار لخمسة من عظماء ذلك الزمان (جمال عبد الناصر – أحمد سوكارنو – جواهرلال نهرو- جوزيف بروزتيتو – شوون لاي).
وحسبُ أبناء دولة “الوحدة” فخراً أن أي مواطن (مغترباً أو زائراً أو سائحاً أو طالباً)، خارج حدود “الجمهورية”، كان يُشار إليه (أخطأ أم أصاب) على أنه “ناصر” تشبّهاً، وتمثّلاً برئيس الجمهورية العربية المتحدة.
ولعل جيلنا يذكر كيف كانت كلمة أو نداء واحد، بـ”طلعة” مذيع من إذاعة صوت العرب، تشعل المظاهرات الطلابية والجماهيرية عموماً ضد الحكام الخونة في الدار العربية الواسعة من الأوراس في الغرب حتى منابت النخيل في العراق..
أما الكيان الصهيوني، فقد تضاءل حجمه، “كما هو في الأصل”، وبخاصة بعد الإعجاز القومي المتمثّل بتأميم قناة “السويس” ومواجهة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، والتصدي للتهديدات والحشود العثمانية في الخمسينيات على الحدود الشمالية لسورية العربية…
وقد تصدّى شعبنا في سورية ومصر لنكسة حزيران بالاستعداد الموازي لضرورات المواجهة يوم واجه الجيش الأول في الجبهة السورية في الشمال، والجيشان الثاني والثالث في الجبهة الشمالية “السويس”، العدو الصهيوني المدعوم أمريكياً وأوروبياً ورجعياً عربياً في حرب تشرين التحريرية التي دخلت تاريخ الصراع العربي الصهيوني من أرحب أبوابه.. ولولا نكوص “السادات” ورهنه النيل والأهرام وتراث عبد الناصر لأمريكا لكان الوجود الصهيوني برمته في مكان ما خارج التراب العربي…
غير أن أمتنا العربية التي تجد في كل ألم جديد أملاً جديداً تتمسك به، وتغذيه بالشهادة والتضحيات الغوالي والمقاومة المستدامة، ترى اليوم في وحدة الرأي والرؤية والبندقية والقرار الفلسطيني، ما يؤكد استيلاد الفجر من كبد هذه العتمة الدامسة، خاصة ونحن على أبواب وضع نهاية سعيدة ومنتصرة للحرب الكونية على سورية العربية التي لا بد أن تنجب مستقبلاً عملاقاً لشعبنا العربي بفضل الثالوث الأقدس، شعب جبار الصمود، وجيش عقائدي عملاق، وقيادة مفولذة الأعصاب يشهد لها العالم بالحكمة الجسورة، والشجاعة المقدامة، والإيمان الذي لا يتزعزع بالنصر المبين.
إن استذكار الوحدة العربية، في مأتم “صفقة القرن” هذه الأيام لا بد أن يشد أعصابنا، ويرسّخ رهاننا الاستراتيجي على شعبنا في الساحة القومية وبخاصة في ميادين محور المقاومة.
تحية لذكرى الوحدة، وكل الإجلال والإكبار لروح زعيمها القائد الخالد جمال عبد الناصر، وتحية محبة واحترام لكل من أسعفه القدر في الإسهام في بنائها الراسخ في عقول الأجيال ووجداناتها لتبقى مثلاً ساطعاً على قدرة أمتنا، وإصرارها على صنع أقدارها، وانتزاع حقوقها من أشداق الحيتان والغيلان ووحوش الصهيونية، ولن تكون “صفقة القرن” إلا في مرمى سهام إرادتنا ومقاومتنا، على تنوع مصادر المقاومة وأسلحتها وسوحها.