فجراً كدت أراه
سلوى عباس
حين يورق ليلنا سهداً وأحلاماً عصية، وحين يمد لنا جفننا أوقاتاً طوالاً من أرق يتوقف العمر على حافة لحظة، نبدو في انشغالنا اليومي كما نواة متخشبة أرعشتها بلّة من ماء الروح فانبعث في خاصرتها برعم مخضوضر بالحياة دون أن نتوقف لحظة ننظر أين نحن، وفي الليل نركن إلى أوراقنا حيث تشرد أقلامنا في صفاء الورق تعكر نقاءه البارد، وتعطي للون الحبر قيمته.. تحرك استكانة الصفحات حيث يمتعنا أن نرى أنفسنا أحياء في كنف انثناءة الورق، متمددين في حنايا الحروف، وسابحين بين النقط، لتغرقنا هذه القضايا في تفاصيلها حتى أننا كثيراً ما نتمنى لو نستطيع أن نسرق بعضاً من الوقت لنريح أجسادنا التعبة، لكن المشاغل تسرقنا حتى من لحظات النوم التي نحتاجها، وفي لحظة يحضرنا السؤال: أين نحن في هذه الزحمة من أنفسنا، ومن أرواحنا التي تحتاج فسحة من الراحة لتحافظ على حيويتها وتجددها لتستطيع متابعة المشوار، ربما هذا الإحساس لا نعيشه إلا عندما يأتي من يقدم لنا فرصة أن نسرق من الزمن لحظات نعيشها بعيداً عن مشاغل العمل وتراكمات الحياة، لحظات نشعر فيها بإنسانيتنا التي نسيناها في زحمة انشغالنا، وهذا ما يحصل عندما نذهب إلى أي فعالية أو نشاط، سواء كان أمسية ثقافية أو موسيقية أو فيلم سينمائي أو عرض مسرحي، أو أي نشاط يخرجنا من روتين حياتنا، ونستعيد عبره بعضاً من تواصلنا الاجتماعي والروحي الذي غفلنا عنه بعد أن سرقنا العمل حتى من أُسرنا، فتكون أي مناسبة ندعى إليها فرصة لنلتقي زملاء لنا وأصدقاء نتقاسم وإياهم همّ العمل ومشاكله، فتصبح هذه اللقاءات فرصة نطمئن فيها على بعضنا، بعيداً عن العمل وتفاصيله المنهكة، ونتحدث بمواضيع لا تبتعد كثيراً عن هموم العمل وشجونه، لكنها تتسم بطابع المرح والتسلية، ونشعر كم نحن بحاجة لهذه الفسحة من الحياة نعيشها بين الحين والآخر، وهذا ما عشناه في ذلك المساء الشباطي البارد، حيث كنا على موعد مع الفن والجمال في معرض احتضنته صالة جورج كامل للمعارض للفنان أكسم طلاّع، ومن لحظة دخولنا تستقبلنا في صدر الصالة جداريات تشكيلية حروفية تبدد البرد في أرواحنا وتدفئنا بمنمنماتها، فقد مارس أكسم حريته على سطح لوحته التي تمثل روحه التي يختزن فيها أحزانه وأفراحه وهواجسه، حيث كان اللون بطل رئيسي في تشكيل اللوحات كلها، وهو خياره الأجمل وأسلوبه التعبيري عن الحياة التي حلم أن يعيشها والتي قضى عمره ينبت زهور الحب في بواديها ويسقيها من رذاذ دمه العابق بالقرنفل، فهو يحب اللون ويرى أنه يمثل حالة قائمة بذاتها، فكانت اللوحة سفوحه الواسعة زرع فيها أمانيه ليالك وأحلاماً وأنبت الدروب عرائش خضراء، وفي بعض اللوحات غابت الأشكال وتماهت بضباب شفيف مازج بين الرمز والتجريد فجاء اللون كي يحتل الفضاء ويقول الكلمة الفصل، كما اكتسى الشكل الضبابي المبهم بالأسئلة والإشارات اللتين تحملان بين طياتهما روحاً عذبها الغياب وكسرتها الخيبات.
يبدو أكسم عبر لوحاته وحيداً وظله مثل نهر يجره وراءه ولوحته كالأرض التي يهيم بها، والتي تتحول في لحظة إلى قمر وخيمة للعائدين إلى ترابهم، فكم نراه متفائلاً عبر لوحاته أن يمنحه وطنه ظل غيمة، لأنه على قناعة أنه مهما ارتفعت الشمس لا تذيب وروده لأنها من نار، فقريته ومنبته الأول والقرى المطلة على شريط قلبه مشتعلة بلوحة هي مرآة روحه وحبق الصبح وقناديل العشاق والشهداء، فكانت اللوحات بمجملها تجسيداً لعنوان المعرض “فجراً كدت أراه” بكل تجلياته وفيه يعود أكسم إلى تلك التلة التي خط على ترابها سطره الطفولي الأول، وأذكر أنه قال لي مرة: حينما أذهب إلى لوحتي أذهب طازج الذاكرة، كل الأمكنة التي عشتها وأتوقع أن أعيشها غير بعيدة عن ذاك المكان حيث مسقط قلبي.