بندر عبد الحميد يسير إلى عالم آخر.. دون وداع
عرفته في منتصف السبعينات، كنت يومئذ في بداياتي الصحفية، أذكر بأنني كتبت مقالاً نقدياً عن إحدى المسرحيات التي تعرض في حلب وقد نشره لي في جريدة “البعث” في الصفحة الثقافية التي كان يديرها وكانت الصحيفة تقع بجانب فندق أمية، هذا المقال كان أوّل مقال لي، وبعد عدة أيام دعيت أنا وأحد الأصدقاء إلى منزله القابع في شارع العابد أمام مقهى الروضة، أخذنا حاجياتنا وتوجهنا إلى البيت، وأعددنا الطعام وجلسنا نتناقش في الشعر والثقافة، ثم ألقى علينا بندر قصيدة، وثانية وحين انتشى نهض وبدأ الرقص، ثم طلب منا أن نرقص معه، فقمنا نتمايل، بينما هو كان مسلطناً في حالة وجد شمولي وغائب عن الوجود، خارج عن حدود الزمن.
هذا البيت الصغير كان يتسع للمثقفين والأدباء السوريين والعرب الذين كانوا يتقاطرون على دمشق، ولا يجدون مكاناً يحتويهم، ومثلنا، فقد كانوا يجلبون أشياءهم ويحضرون ثم يتوكأون على أنفسهم وينامون إلى صباح اليوم التالي. وبيت بندر هو شقة صغيرة تقع في الدور الأرضي، تصعد إليها بدرجتين وتدخل إلى ممرّ قصير، ثم تفاجئك الغرفة، ولا شيء غيرها. إنها قلب بندر عبد الحميد يجتمع فيها الناس، وفيها يصخبون ويمرحون ويصمتون، قال عنها الشاعر بيان الصفدي ما يلي:
“هذه الشقة نصلت ألوان حوائطها/وتشققت الجدران/ ولكي تتذكر في فرح/
أنّ مرّ بها أقوام شتى/ما ضاقت يوماً/ يدخلها الأخلاط/الشعراء.. القيافون.. ضيوف الصدفة/قرويون.. انقطعوا/أشباه/ جوعى/ وطفيليون/نساء.. وأشباه نساء ورجال/والشقة ما ضاقت يوماً/وبندر لا يتأخر عن فتح صرة الخبز/ويقدم الزاد لنا”.
يمكن أن نقول: إنه صديق الجميع، كريم بدوي، جاء من قرية “تل صفوك” وهي تبعد عن الحسكة حوالي 20 كيلو متراً، وُلِدَ في عام 1950 فيها، وهو من عشيرة الجبور التي تقطن في منطقة الحسكة إلى العراق، وتعلّم في مدرسة العشائر الداخلية، حين كان أهله ينتقلون بين سهل سنجار وتل براك حيث يسكنون في بيوت من الشعر يرعون مواشيهم، ثم انتقل إلى مدرسة “الغسانية” في الحسكة، واستأجر غرفة فيها، وبعد نيله الشهادة الثانوية اتجه إلى كلية الآداب قسم اللغة العربية في جامعة دمشق، عمل محرّراً في جريدة البعث، ثم مسؤولاً ثقافياً فيها، وأثناء ذلك كان يكتب الشعر الموزون والمقفى، ثم تخلى عنه إلى الشعر الحديث، وهيأت له الصحافة الثقافية مكاناً مرموقاً بين المثقفين.
بندر عبد الحميد شاعر وناقد متعلّق بالسينما والفن، يقول لك حين يراك، “لماذا لا تمر، الكلّ يأتون”، ويمكن أن تقول: خرجت الثقافة الحديثة والشعر من بيت بندر، يقول من قصيدة “في انتظار القطار”:
“بعد قليل يصل القطار إلى المحطة/
إلى رصيف القبلات والدموع/
دائماً.. دائماً/ثمة قطاران يسيران نحو المحطة /قطار العشاق/وقطار الأسرى/ومن المؤسف دائماً/أن الناس يزدادون وحشية/كلما تطور الفن”
هو صحفي من الطراز الأوّل، مشغول بالقراءة والحب والصداقة والعمل، ذهب إلى هنغاريا عام 1979 لدراسة الصحافة ثم عاد منها واشتغل في مجلة الحياة السينمائية ثم أسس مجلة الفن السابع وهي تعني بنشر الكتب السينمائية النقدية، صدر له:
(كالغزالة.. كصوت الماء والريح- إعلانان الموت والحرية- احتفالات- كانت طويلة في المساء-
مغامرات الأصابع والعيون-الضحك والكارثة-
حوار من طرف واحد، ورواية واحدة بعنوان “الطاحونة السوداء).
وله في السينما:
(عن الفن في القرن العشرين- ساحرات السينما- سينمائيون بلا حدود)
قال عنه حسان عزت: “هامته أعلى من سارية.. وداعاً بدمع لا يستطيع الوصول إلى مآقيه”.
هكذا مضى هذا البدوي وحيداً دون أن يقول وداعاً لأحد، فقد توفي الشاعر والناقد السينمائي بندر عبد الحميد في السابع عشر من شهر شباط عام 2020
فيصل خرتش