الصفحة الاخيرةزواياصحيفة البعث

سماء معلّقة بالشغف

سلوى عباس

لم تكن تدرك أن تلك العبارات التي بثتها لأوراقها يوماً ستسبب لها ألماً لن تمحوه الأيام، عندما عادت من مدرستها ووجدت والدها يقف أمام طاولتها يقرأ في دفترها  والدمعة تقف في محجر عينيه وهو يقرأ ما كتبت من عبارات عن السفر والرحيل.. عبارات آلمته وجمدت الكلام في حلقه.. حينها كل شيء تجمد أمام هذا الموقف، وحده والدها غادر الغرفة دونما التفاتة، ركضت وراءه وحاولت أن تضمه في قلبها وأن تواري وجهه الحزين بين ضلوعها، وأن تشعل دمها شمساً لصباحاته مقابل أن يسامحها، لكن ما حدث آلمها أكثر فقد عاد معها إلى غرفتها، وأخذ يحدثها عن أخوتها الذين يحتاجون لرعايته واهتمامه، وعن الحجرات الثمانية التي بناها في قلبه لأسرته، وأنه ليس من قوة يمكنها أن تهدم هذه الحجرات إلا الموت، وكم أرعبتها هذه الكلمة، فاحتضنته واعتذرت على كلام كتبته في لحظة عابرة ولم تكن تقصد أن يودي إلى هنا، لكنه قبّلها على جبينها وخرج من الغرفة.

اليوم وقد ملأ الحزن الدنيا وأخذ من روح هذه الصبية كل مأخذ، تتمنى أن يكون بمقدورها امتلاك جواز سفر يعبر بها إلى من ظلوا رغم الغياب يشكلون ماضيها وذاكرتها الجميلة، فهل الحياة تفرض علينا أقدارنا، أم نحن الذين نختارها..؟ أم أن ما تبقى لنا من عمر قصير هو ما يجعلنا نهرب من ذواتنا لننكفئ على أوجاعنا التي حفرت أخاديدها في أعماقنا، دون أن يلامس أحدٌ ما بداخلنا من جروح تنزف ألماً، ومن تسبّبوا بها هم آخر من ينتبه إلينا!.

****

كلما احتدمت فيه أشواقه لجأ إلى رائحة الكتاب الذي تركت فيه بعضاً منها.. يكاد لا يقرأ فيه شيئاً حتى تأخذه الرائحة إليها، تشده بعيداً عن أريكته وعن كل ضجيج الناس والزوار وأناشيد الأطفال التي تتسرب من خلال النافذة، تأخذه إليها، لشذى يديها، لصوت ضحكتها الشفيفة ترش على روحه مطرها الربيعي، تلك التي تنبع من الذرا الوردية للاشتياق.. تأخذه لهمس صوت وثير مفعم بالحنان يملأ عليه في ذاكرته جواً من السكينة والغبطة.. كما رشة ماء على التراب تنبت شيئاً من السلام حول الروح المتواثبة إليها رغم أثقالها وكل أقفاصها.. عصفوراً من الرغبات والشوق مغلق الأماني.. مسكوناً بالتحليق على شواطئها كنورس.. مزروعا كنبتة حبق على طرف بابها البعيد..

تضطرم أحلامه بها فيلوذ بالنوم كي يقترب منها أكثر.. كي يجتاز المسافات إليها.. يطير حولها ويحضر إليها نسيمات المساء الندية معه.. يلجأ كثيراً إلى ذاك الكتاب.. لا ليقرأ فيه ما فيه، بل ليقرأ عينيها الوديعتين ويترك لقلبه فسحة من ماء الحنين يعبرها إليها، هي الساكنة فيه كالدم، المتوجة عليه ملكة.. يعاني كثيراً من الحنين إليها واستذكار أوقاتها الجميلة بعد أن اعتادها قريبة منه بل قريبة فيه.

****

كانت تناجيه كحبيب من در السماء وخفقات النبع.. ومع لهفة الحب يهرب طيفها إليه، فتطير محلّقة في فضاء فردوسه الفسيح، وتنتظر مساء هادئاً لتصبح حقيقة تحط على ضفاف قلبه الدافئ في إغفاءة لا يهم أن ينتهي العمر بعدها..!!

كان يرسم على شبابيك روحها ألواناً من ضوء تشع فوق أمواج حياتها فتضيء الشموس ويتفتح البنفسج، فتطلق روحها في السماء المعلقة بالشغف تحلم بطيور ملونة تلعب في فضائهما وتحط على شواطئ دافئة تضم قلبيهما..

هذا ما تمنته وحلمت به معه، بينما هو كان يرتب حياة أخرى بعيداً عنها وعن أحلامها.. كان يبحث عمن ينجيه من العدم ويحقق امتداده.. لذلك وبعد أسف على عمر قضته مع اختيارات خاطئة، قررت الرحيل حتى من ذاكرتها، دون أن تطارد الفراشات التي طارت من قلبها في كل مرة قال لها كلمة أحبك، وكل الأحلام والذكريات الجميلة التي دخلت إلى ذاكرتها في كل مرة كان يواعدها فيها.