“محاولة في أصل اللغات” جان جاك روسو
“وأني لمقدم هنا على استطراد طويل في موضوع قد أكل عليه الدهر وشرب حتى صار مبتذلا، ومع ذلك، لا بد من الرجوع إليه دائما، حتى نقف على أصل المؤسسات”، ما سبق ورد في مقدمة كتاب “محاولة في أصل اللغات”، للفيلسوف والأديب “جان جاك روسو” 1712-1778، أحد أهم أعمدة عصر التنوير، ولا بد من أن يُدرك القارئ المشقة التي يخوض بها “روسو” في مؤلفه الخالد هذا، وهو إن وصف موضوعه الجسيم بكونه صار كلاسيكيا، مملا، فإن هذا لا يعني أنه لا يريد الخوض به على جسامته، وكذا طبع كبار الفلاسفة والكتّاب، أن يُعملوا فكرهم بما أهمل الناس، أو على وجه الدقة بما يعتقدونه عابرا، لا أهمية له، ولكنه في الواقع هو من أهم عوامل وجودهم وبناء علائقهم، عدا عن كونه بطريقة أو بأخرى شرطا من شروط استمراريتهم الأهم. المقدمة الآنفة الذكر، تحدد على أن ما سيليها من فصول الكتاب وما تتضمن عليه، على أنها المرجع والشاهد والحكم، في كل ما يتعلق بالمؤسسات الإنسانة عامة، وبالمؤسسات اللغوية على وجه الخصوص، فالكتاب برمته وبأجزائه ما هو وحسب “روسو” إلا محاولة في معرفة أصول اللغات.
“إن كل الأهواء تُقرب بين الناس الذين تجبرهم ضرورة البحث عن العيش إلى التباعد، فلا الجوع ولا العطش انتزع منهم أول التصويتات، بل الحب والكره، الشفقة والغضب، إن الثمار لا تفلت من أيدينا، فيمكننا أن نتغذى بها من دون كلام، كما أننا في صمت نطارد الفريسة التي نقتاتها، ولكن، إننا إذا ما أردنا التأثير في قلب شاب، أو صدّ معتد أثيم، فإن الطبيعة تملي علينا نبرات وصرخات وأنات”؛ تبدو اجتماعية الإنسان هنا وحسب ما سبق محددة لنطقه باللغة، لكن هذه الاجتماعية لا تُحدد من كل شروط اللغة إلا أحدها، فاللغة تقتضي أن يُصاحب اجتماع الناس، تولد للأهواء والعواطف، فالحاجات الطبيعية وفي حال افترضنا أنها توحد الناس، لا تولد من اللغات إلا لغة الإشارة، عملية الصيد مثلا لا تحتاج إلى عبارات متبادلة، بل إن اعتمادها على النجاح، سُيخفق في حال تم ذلك بين الصيادين، وهو ما يجعل الإشارة هي اللغة المناسبة لإنجاز المهمة، لكن هذا الأمر سيتغير في موضوع المشاعر مثلا، فهي تحتاج إلى الصوت، ولذلك يحكي تولد الكلام تولد الهوى، وإن تبلد الكلام تبلد الهوى، ولعل هذا التبلد قد بلغ قراره في الكتاب، إذ تقلب على اللغات عبقريتها، فلا يبقى فيها من طاقة التعبير شيء، بل يتحول كل ذلك إلى وضوح في المعنى ودقة في الأفكار، هكذا ينتقل إيحاء نبرة النطق، إلى صمم نبرة الرسم البكيمة، فما تقدر أن تحمل من حياة اللغة إلا ذكراها، والتي هي في جوهرها ذكرى ميتة.
يدرك الخبير بعوالم الموسيقى والصوت، أن المرء إذا أضحى كل شيء يقوله كما لو كان يكتبه، فإنه بهذا لم يعد إلا مجرد قارئ! وهكذا آلت نغميّة اللغات الحديثة إلى علامات نغميّة منقطعة عن الواقع النغميّ، وهو ما يدل حسب “روسو” على أنها أضحت لغات مكتوبة، ويذهب أبعد من ذلك في توصيفه للهوة، مؤكدا أنها حتى في نطقها غدت مكتوبة، موردا المثال البارع التالي “لو تكلم اليهود اليوم بالعبرية، لما فهمهم أجدادهم”، ووصفنا للمثال ببراعته، لكون أكبر عملية جرت للغة تم ترجمتها من صوت إلى لغة ليس هي، جرت في “العهد القديم” والقصة أشهر من إيرادها، وهذا المنحى اللغوي الشاق الذي نحى في شعابه “روسو”، هو من أكثر القضايا المُختلف عليها في علم اللغويات واللسانيات اليوم، لكن المؤلف وفي تتبعه آثار هذا الضياع التاريخي للغة، سوف لن يفوته السؤال عن “أصلها”، بل إن هذا السؤال هو السبيل عنده لمعرفة آلية هذا الضياع؛ ففي الفصلين التاسع والعاشر من “محاولة في أصل اللغات” يتولى صاحب “الاعترافات” –كتابه الأشهر- تحديد التكوين الطبيعي لجغرافيا اللغات، وهو ما كان أشار إليه لما أورده في نهاية الفصل الثامن: “فلنعمل على أن نساير في بحوثنا نظام الطبيعة نفسه”؛ أما الفصول السبعة السابقة، فإنها تعرض لقصة تباعد اللغة عن الطبيعة، فالعود إلى أصل تكوّن اللغات، قد ورد في المحاولة، وفي وقت وصل فيه وصف “ضياع اللغة” آخر ما وصلت إليه هذه الظاهرة في زمن الكاتب.
لا بد من التنويه إلى الترجمة البارعة للكتاب التي قام بها “محمد محجوب”، الذي تصدى لعمل شائك وصعب عند تصديه لترجمة محاولات “روسو” في الوقوف على أصل اللغات، فهو يدرك أن كل ترجمة، إنما هي محاولة لإنطاق النص في غير لغته، وما قام به من عمل وجهد حافظ فيه على الأمانة المهنية، سواء في المعنى أو المناخ الأسلوبي، وحتى في العوارض التعبيرية، التي ربما لا يكون لها أي أثر على المعنى، بالتأكيد ترفع له القبعة، حتى وإن وجد بعض القراء في ترجمته، مفردات مختلفة عن روح العصر، فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم، وهو ما يؤكده.
تمّام علي بركات