“ملك الهند”.. رواية أجيال وتوثيق تاريخي
الرواية التي تحقق عنصر الإدهاش، هي الرواية القادرة على الاستحواذ على وعي القارئ من الصفحات الأولى حتى النهاية. وعندما قرأت رواية “الجذور” للكاتب الأمريكي اليكس هالي، وجدت نفسي أمام فضاء روائي مترامي الأطراف زمانيا ومكانيا، مفعم بالدهشة، يمتد إلى أجيال عدة. وقد جئت على ذكر رواية الجذور الصادر بجزأين، لأنني وجدت نفسي وأنا أقرأ رواية الكاتب اللبناني جبور الدويهي “ملك الهند” أمام جذور أخرى، لكن على نطاق رمزي ضيق،تمثلها حكاية عائلة مبارك المنحدرة من بلدة تل صفرا في جبل لبنان التي يلخص من خلالها معاناة شعب عبر قرن من الزمن، فعبر تتبع أجيال هذه العائلة يأخذنا الدويهي في قراءة توثيقية تاريخية إلى عام ١٩٠٤ومابعد، ليضعنا أمام مأساة هذا الشعب الذي طحنته المحاصصات والصراعات الطائفية التي مازالت حتى اليوم تشوه كل مقومات الحياة والجمال فيه، ودفعت الكثير من أبنائه لمغادرة بلادهم وأرضهم والبحث عن مستقر في بلاد الأرض الواسعة،لاسيما في القارة الأمريكية.
يمكن تصنيف رواية “ملك الهند” المرشحة ضمن القائمة القصيرة لجائزة الرواية العربية “البوكر” ٢٠٢٠، كرواية تاريخية بوليسية توثيقية، يتداخل فيها الزمن السردي المكثف الذي يقوم على تقنية الاسترجاع “الفلاش باك” ويسير وفق خطيّة غير متسلسلة. رواية تمور بالأحداث والوقائع،قليلة الاستطرادات والثرثرات المجانية،يحتل المكان أهمية بارزة في فضائها المفتوح على تأويلات متعددة، تحملها حقائق وموروثات اجتماعية سائدة.
رواية أزمنة وأجيال متعاقبة وأصوات متعددة يترك لها الكاتب المضطلع بمهمة الراوي العارف بجغرافية الأمكنة وأنماط حياة سكانها، التي تتوزع فيها الأحداث بين أوروبا وأمريكا ولبنان، يدع شخصياته تفرض وجودها وتعبّر عن ذاتها بين الحين والآخر، ويتدخل في الأوقات المناسبة ليتولى زمام المبادرة والتوجيه بمهارة وخبرة القبطان الواثق من أدواته.
هي الرواية الثامنة لجبور المولع بهموم المنطقة،وزعزعة الأسس التي تقوم عليها المسلمات المربكة لصيرورة الحياة فيها، يحاول إشادة عالم روائي يمتح عناصره من تناقضات المنطقة وصراعاتها بأمانة، فهو يسمي الأشياء بمسمياتها دون الخضوع للاعتبارات السياسية،والأنا المناطقية الضيقة، حيث نراه ينسب المهاجرين من لبنان في أوائل القرن الماضي إلى سورية بجغرافيتها الطبيعية قبل تقسيمات سايكس بيكو، وهي حقيقة حاول الكثير من الكتاب طمسها خضوعا للاعتبارات السياسية، كما حدث في معظم مؤلفات جبران خليل جبران، يقول: “..بدأ الركاب ينتظرون رؤية مدينة نيويورك في الأفق..ودعها بحار مدغشقر وسجلت فيلومينا في لوائح “ايلس أيلاند” عام ١٩٠٤على أنها قادمة من سورية وعمرها ست وعشرون سنة خالية من الأمراض المعدية والعاهات”.
رواية الدويهي موسومة بعنوان مبهم ،لا يشي بالمضمون،إلا في مقطع صغير يأتي فيه على ذكر صديق زكريا، الشخصية المحورية، ذلك الهندي الذي التقاه في أمريكا وحدّثه عن تقليد حرق الموتى والاحتفاظ برمادهم لكي يحفظ رماد طفلته ماري التي قتلها، مع عدد من رفاقها، أمريكي من جماعة الصليب المعقوف العنصرية، عندما هاجم مدرستهم وشرع يطلق النار عليهم”.. نحن الهندوس نحرق موتانا فتأخذ النار أرواحهم لتتحد مع الكائنات السماوية، ويبقى لنا رمادهم ذكرى..”.
حكاية الرواية تدور حول زكريا بن إبراهيم مبارك العائد من أمريكا إلى مسقط رأسه تل صفرا التي يسكنها خليط من الطوائف والأديان وتقع على الطريق الدولي الذي يوصل الداخل بالبحر، عرف أبناؤها الترحال كتقليد بدأ منذ قرون هربا من ظلم العثماني المحتل الذي أفقر الناس واستولى على أرزاقهم وتعبهم. وبعد عودة زكريا بأيام عدة، يقتل بطلق ناري تحت شجرة في كرم “المحمودية” الذي ورثه عن جدته فيلومينا التي تركت طفلها”جبرائيل” لدى شقيقتها كاترينا وسافرت على متن باخرة إلى أمريكا بعد اختفاء زوجها في ظروف غامضة.وهناك تقيم عند عجوز فرنسي ترث كل أملاكه بعد وفاته،لتعود إلى تل صفرا وتشتري كرم المحمودية الذي يرثه ابنها جبرائيل وهو بدوره يورثه لابنه إبراهيم ويحرم ولده الثاني يونس المبذر من حقه بالميراث لذلك تدور الشبهات حول أولاده بعد مقتل ابن عمهم زكريا بن إبراهيم العائد ومعه لوحة فنية ثمينة موقعة باسم الرسام مارك شاغال اسمها”عازف الكمان الأزرق” حصل عليها من زوجته التي توفيت بمرض السرطان بعد أن تركت له طفلة قتلت في حادث إطلاق النار على المدرسة. وبعد مقتل زكريا تأخذ الرواية خطا دراميا متصاعدا ويبرز الجانب البوليسي ليعرج، من خلال تتبع حياته وسيرته إلى أجيال العائلة الخمسة،والبحث في شبهات مرتكب الجريمة تلك الشبهات التي حامت حول أولاد عمه يونس انتقاما منه بعد حرمانهم من نصيبهم بالأرض، وكذلك حول أفراد عصابة تعرف عليها زكريا بغية بيع اللوحة بسعر مرتفع، وحول،أيضا، شركائهم السابقين بالكرم من أبناء الطائفة الأخرى على خلفية ثأرية قديمة، لتنتهي الرواية بخاتمة مفتوحة على كل القراءات بعد إبقاء الغموض يكتنف الجريمة، التي تأخذنا إلى مجازر الفتنة الطائفية عام ١٨٦٠ في الجبل،والحرب الأهلية، والاجتياح الإسرائيلي، والمحاصصات والنزاعات الطائفية، مستعينا بوثائق ومراجع معروفة مثل كتاب “شاهد عيان على محنة جبل لبنان” الصادر عام ١٨٩٢ مطبعة الإسكندرية وفيه يذكر:”فسدت النيات والنفوس الأمارة بالسوء هبت إلى شرب الدماء في كل أنحاء البلاد ووصلت الفتنة إلى قرية تل صفرا التي تقع على مساحة خمسة عشر ميلا من بيروت..”
رغم تورط شخصيات الدويهي، اللاإرادي أحيانا، في تعاطي أفيون الحرب الطائفية،فإننا نجده يحرص على رسم ملامح شخصيات واعية مثقفة تهتم بالكتب والقراءة من خلال شخصية زكريا ووالدته أميلي، لكن الكاتب يلح من خلال هذا التوريط،على دور الإرادة الجماعية في رسم مصير الأفراد. يحتفي الدويهي في “ملك الهند” بالمكان ومفردات الطبيعة بأسلوب يتسم بالحميمية والأسف على وطن يزخر بجمال الطبيعة والتنوع الديموغرافي، يبتلى منذ نشأته بأحقاد متوارثة.
“ملك الهند”: نص روائي منسوج بعناية وخبرة فائقة على تتبع الأحداث والربط بينها.
آصف إبراهيم