ثقافةصحيفة البعث

د. عبد الله عبد الدايم.. رجل تربية يعلو فوق كل التجارب

ينتمي إلى جيل الطليعة من المثقفين العرب الذي حملوا على عاتقهم مسؤولية النهوض القومي العربي وتبعاته في مختلف ميادين الحياة، ليس فقط عبر ما أصدروه من كتب أو ما قاموا به من أنشطة ثقافية وعبر حياتهم العملية أيضاً هو المفكر الباحث التربوي د. عبد الله عبد الدايم الذي خصصت له وزارة الثقافة ندوة “قامات في الفكر والأدب والحياة” التي تقام شهرياً في مكتبة الأسد.

ملامح وتحديات الفكر القومي
لم يبتعد الفكر القومي عن فكره التربوي وكأنهما وجهان لعملة واحدة، وكلاهما فلسفة تغوص في عمق التربية الذاتية والاجتماعية للأجيال وتتفاعل في عقولها وفق منهج سليم يلبي احتياجات الحياة، فلا انفصام بين المؤلفات القومية والمؤلفات التربوية لأن المسألة القومية للعروبة جزء لا يتجزأ من التربية الوطنية الثقافية الشاملة والدائمة والمنفتحة على التراث الأصيل والثقافات العريقة للأمم والشعوب، وعن الفكر القومي وملامحه عند عبد الله عبد الدايم تحدث د. حسين جمعة قائلاً: لم يغفل د. عبد الدايم في مؤلفاته عن التعرض لتحديات الفكر القومي العربي والتي من أخطرها التحدي الصهيوني الذي يعد تحدياً مركباً وشديد الخطورة لأنه رأس حربة للمشروع الاستعماري الغربي الأمريكي الذي زرعه في قلب الأمة العربية لإعاقة مشروعها القومي، أما التحدي الثاني فهو تحدي العولمة للفكر القومي وثقافة النهضة المتطورة، والتحدي الثالث كان التحدي الثقافي العلمي الإعلامي التقاني، فيرى الكاتب أن القصور الثقافي للمشروع القومي العربي قد جعل أربابه يستقون في بعض الأحيان كثيراً من أفكار الغرب ونظرياته بعيداً عن مراعاة الخصائص الاجتماعية والثقافية والتاريخية والحضارية لأمتهم، والتحدي الأخير هو التحدي التربوي فهناك قلة في الإمكانات المتوافرة للتربية في الدول العربية وقصور في مناهجها وطرائق تربية الأجيال فضلاً عن أساليب قديمة ومتخلفة.

التخطيط التربوي
اهتم عبد الدايم بالترجمة ولم يقف عند حدودها فقط بل تبنى كثيراً من الأفكار التي يرى أنها تسهم في تطور العملية التربوية ولا سيما دور المدرسة في الحياة والعلاقة بين التربية والحرية، فبيّن د.عيسى الشماس أن عبد الدايم كان يرى أن التخطيط التربوي عملية إستراتيجية يقوم بها خبراء يرغبون بالتغيير والانتقال من الوضع الراهن إلى الوضع الذي يمكن تحليله والتعامل معه بإيجابية، وفي كتابه الذي يحمل عنوان “التخطيط التربوي” يربط بين الفلسفة والتخطيط التربوي إذ على المخطط التربوي أن يحيط بفلسفة بلده السياسية والاجتماعية ونظام التربية السائد، وقد وضح آراءه التربوية فيما يتعلق بالواقع العربي الحالي وتطلعاته المستقبلية، وما ينعكس على مسيرة التربية العربية من خلال معالجة مجموعة من المشكلات من أهمها: الإنفاق على التربية أو ما يسمى تمويل التعليم، وذلك انطلاقاً من مبدأ أن التربية مشروع اقتصادي، محو الأمية والتعليم الإلزامي واتخاذ الإجراءات اللازمة لمعالجة هذه المشكلة وإيجاد الحلول المناسبة لها.

مثقف رائد
ما يميز أبحاث د. عبد الدايم هو الدقة والشمول والبحث العياني والملموس بدءاً من دقة المصطلحات المستخدمة وصولاً إلى النتائج والمقترحات مروراً بالمعالجة التي تتميز بالنوعية والرصانة والموضوعية دون تعصب أعمى للتراث أو انبهار مجاني بمنجزات الثقافة المعاصرة الوافدة، وعن علاقة الثقافة والتراث في فكر عبد الدايم تحدث الباحث محمد طربيه عن كتابه “في سبيل ثقافة عربية ذاتية” حيث يركز الكاتب على رأس المال البشري ويعطيه الأولوية للتنمية البشرية وليس للنمو الاقتصادي بخلاف ماهو معروف وسائد، فمفهوم الثقافة أوسع من مجرد جمع للمعلومات والأفكار من بطون الكتب.
ويناقش عبد الدايم مطولاً موضوع تسمية التراث هل هو عربي أم إسلامي أم عربي- إسلامي فيختار المصطلح الأخير كما اختاره أكثر الباحثين معللاً ذلك بقوله “إننا لا نعني بكلمة إسلامي وصفاً لكلمة عربي بحيث يذهب الظن إلى أن التراث عربي إسلامي معاً، وأن العنصرين متآخذان مندمجان” والمؤلف ككل المؤلفين الموضوعيين لم يكن متعصباً للتراث تعصباً أعمى أو منساقاً نحوه بدافع من عاطفة شوفينية قومية أو دينية، بل هو على وعي تام وإدراك بصير بأنه ليس كل مافي التراث مشرق ومضيء بحيث ينفي الفكرة التقديسية الصنمية للتراث.

حياة مفكر
وتحدث مدير الندوة د. إسماعيل مروة عن حياة وجهود المفكر عبد الله عبد الدايم قائلاً: ولد في حلب وبحكم عمل والده القاضي الشيخ أحمد الذي تعددت أماكن عمله تنقل بين المدن السورية، وبهذا يكون قد جرب مدارس المدن السورية في مراحله التعليمية الأولى، ولهذا أهمية في حياة من سيصبح التربوي الأكثر أهمية، ومن سيصبح وزيراً للتربية، فقد عاين التعليم حتى اكتملت مرحلته الثانوية في مدينة حلب، وفي المدرسة السلطانية صقل الطالب عبد الله عبد الدايم، تعليمه للغات وتحديد ميوله الفلسفية والتربوية، فهو علامة علمية سورية وتربوية، أسندت إليه دون سعي وزارة الإعلام لمرتين في عام 1962و1964، ووزارة التربية عام 1966، وهذه المرحلة التي انصب عليه فيها نقد المؤدلجين في مرحلة مابعد الانفصال، ومرحلة حزب البعث العربي الاشتراكي، وقد قال أحد طلابه عنه على موقع الانترنت: لم يتطرق بشكل واضح لكل المناصب المهمة والوزارية التي تولاها، إذ لم يرها إلا تجربة عابرة، لا يذكرها إن لم يتم تذكيره بها، ليس لمرارتها فحسب بل لكونه يرى نفسه رجل تربية يعلو فوق التجارب، ويعمل في أسس الأمة وليس في مظاهر حركية عابرة أو انتقالية، وقد احتل د. عبد الدايم مكانته المرموقة والسامية بين المؤلفين العرب بإنتاجه الغني والغزير الذي استند إلى سعة اطلاع ومعرفة بكل ما يصدر باللغة العربية والأجنبية، فنشط خلال دراسته بنشر العديد من المقالات الفلسفية والأدبية في جريدة “الأديب” البيروتية، واختار التفرغ للتأليف ليترك للمهتمين عدداً كبيراً من المؤلفات التربوية.
علا أحمد