أردوغان وسياسة شفير الهاوية
الدكتور سليم بركات
تتصدّر معركة تحرير إدلب الساحة المحلية والعالمية وعناوين الأخبار والاهتمامات الدولية، وخاصة بعد التقدّم الهائل الذي أحرزه الجيش العربي السوري في المناطق التي تسيطر عليها هذه المجموعات وبدعم تركي، والتي عاثت رعباً وفساداً ليس في محافظة إدلب فقط، وإنما أينما حلّت أو وجدت على أرض الجمهورية العربية السورية، واللافت للنظر بشكل واضح وصريح هو الإرادة السورية الثابتة والصلبة بالاستمرار في هذه المعركة دون توقف حتى استكمال المهمّة في تطهير سورية من نجس الإرهاب. هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن لروسيا الحليف الاستراتيجي لسورية في هذه المهمّة كل الحق والحجة الكاملة في دعم الجيش العربي السوري وقواه الرديفة في مواجهة العدوان التركي الذي أمر به أردوغان مستهدفاً دولة ذات سيادة وحليفة لروسيا، ولاسيما بعد تنكره لقرارات أستانا واتفاق سوتشي، والذي تعهد من خلاله أردوغان بإلزام هذه المجموعات الإرهابية بالانسحاب من الأراضي السورية والتوقف عن دعمها، الأمر الذي وضعه في الخيار الأسوأ بعد نقض هذا التعهد، وهي ليست المواجهة العسكرية المباشرة مع الجيش العربي السوري فحسب، وإنما مع الجيش الروسي أيضاً، وهذا بدوره جعل من الموقفين الروسي والسوري موقفاً واحداً وموحداً في مواجهة الموقف التركي ومن لفّ لفه بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
قد يستقوي أردوغان بحلف الناتو باعتبار تركيا عضواً فعالاً فيه، لكن أمريكا التي تقود هذا الحلف ليست على استعداد لدخول مواجهة عسكرية مع روسيا للدفاع عن تركيا أردوغان، بل ستتركه يدفع ثمن الذهاب بعلاقاته مع روسيا إلى الحدّ الذي لم تكن ترضاه أمريكا ومن لفّ لفها من دول الغرب المنخرطة في حلف الناتو. ولا نجانب الحقيقة إذا قلنا إن المعركة العسكرية في حال اندلعت وجهاً لوجه بين سورية وتركيا، فإنها لن تتوقف على إدلب فقط، بل ستشمل مناطق أكثر، وستكون مدمّرة، وإلى درجة يخسر فيها الجميع، ومع ذلك يوجد حجة واحدة يمكن أن تتدخل من خلالها أمريكا في هذه الحرب وهي دخول القوات الروسية الأراضي التركية دخول المحتل، إذ في مثل هذه الحالة قد تطبق أمريكا نظام حلف الناتو الذي يتضمن دعمه للدول المشاركة فيه فيما لو كانت هذه الدول معتدى عليها لا أن تكون هي المعتدية، وتركيا أردوغان دولة معتدية لا بل محتلة لأراض سورية خلافاً لكل قوانين الشرعية الدولية. تفعل ذلك وهي تعلم أن كل ما يهمّ سورية هو المحافظة على سيادتها ووحدة أراضيها، وأنها لن تفرط في ذلك مهما كانت تهديدات أردوغان المحتل والمتدخل في الشأن السوري، والمؤسّس الحامل للمشروع الإرهابي الصهيوني ليس على الأرض السورية فقط، وإنما على مستوى المنطقة والعالم.
مع توجّه العلاقات التركية الروسية إلى المزيد من التدهور، يعلق أردوغان أمله على الرئيس الأمريكي ترامب، بغية تفادي إغضاب حلف الناتو الذي هو عضو فيه، وتفادي العقوبات الأمريكية أيضاً، ترامب الذي لا يحبذ وضع عقوبات قاسية على تركيا، لأنه يرغب بالمحافظة على التحالف الأمريكي التركي مقتدياً بالرئيس الأمريكي هاري ترومان ما بين نهاية أربعينيات وبداية خمسينيات القرن المنصرم، والذي بنى سياسته تجاه تركيا على عدم وقوعها في فلك النفوذ الروسي، وربما من وجهة نظره -أي ترامب- أن روسيا الآن هي من يسعى إلى فضّ التحالف التركي الأمريكي، وإلا لما كان شراء نظام /إس 400/ الصاروخي من قبل تركيا، والذي يعدّ من وجهة نظره بداية التحول في العلاقات التركية الروسية، في الوقت الذي يعتقد فيه أردوغان أن بإمكانه المناورة في السياسة الأمريكية حيال أزمات المنطقة وفي طليعتها الأزمة السورية، كي يعزّز دور تركيا الإقليمي، وهو يطمح إلى تحقيق مشروعه العثماني الإخواني، الأمر الذي يجعل من الشراكة الروسية التركية شراكة هشّة، ولا ترتقي بعلاقاتها إلى مستوى روابط تركيا التاريخية والمؤسساتية مع الغرب وفي الطليعة الولايات المتحدة الأمريكية.
إن ما يحدث في سورية لم يكن حدثاً عادياً على المستوى الدولي، ولهذا كيف يمكن لدولة مثل روسيا أن تمرّ على ما يجري دون تدخل، فما حدث في سورية على يد تركيا أردوغان وداعميه تحوّل إلى أزمة إقليمية ودولية عاصفة، لا تهدّد روسيا فقط وإنما المنطقة والعالم. ولما كانت روسيا حليفاً استراتيجياً تاريخياً لسورية، وعدم التنسيق معها يمثل خسارة للطرفين لا تعوض، فلابد لهما من أن يعملا بجد لإفشال كل المخططات التي تستهدفهما مباشرة، الأمر الذي يجعل من توحيد الموقفين السوري والروسي أمراً طبيعياً في مواجهة مخاطر السياسة التركية ومن يدور في فلكها، ولاسيما فيما يخصّ الأزمة السورية ومستجداتها، ولما كانت سياسة أردوغان هي هذا المستجد المنافق والخبيث، فلا بد من وقوعه بين فكي الكماشة السورية الروسية، ما يعني مواجهة سياسته حتى خروجه نهائياً من المشهد السياسي التركي على مستوى المنطقة.
لا يمكن تحرير إدلب إلا بسحق الإرهاب وترحيله فيها ومنها، ولأن أردوغان كان المحامي لهذا الإرهاب ومحركه، وهو يرسل البعض منه إلى ليبيا، وربما لهذه الأسباب كانت زيارته الارتجالية إلى تونس ليجعل منها معبراً لهؤلاء الإرهابيين المسلحين، فإن الذي لا خلاف عليه هو أن تنظيم “القاعدة” قد أُسّس في ليبيا بفضل ورعاية منظمة حلف الأطلسي، والتي اعتمدت الكثير من العملاء، كعبد الكريم بلحاج الذي أصبح حاكماً عسكرياً لطرابلس، ومهدي الحاراتي أحد رموز العمالة للمخابرات المركزية الأمريكية، ولما كان الأمر كذلك فإننا لا نبالغ إذا قلنا إن أمثال هؤلاء ومن لفّ لفهم من “الإخوان المسلمين” والإرهابيين، هم من حضر إلى سورية لتأسيس ما يُسمّى “الجيش الحر” الذي تأسّس بعد نقل هذه المجموعات الإرهابية مع أسلحتها وعتادها إلى تركيا بناء على أوامر أردوغان، كي يتلقوا فيها التدريب المكثّف على أيدي المخابرات التركية قبل دخولهم سورية وجبل الزاوية حصراً، هذا الدخول الذي حظي بتغطية إعلامية تركية قطرية، سعودية، إماراتية وبدعم أمريكي وأوروبي، كما أفادت الكثير من وسائل الإعلام وفي طليعتها وسائل الإعلام الإسبانية.
من هذا المنطلق يمكن القول إن إرسال المسلحين إلى ليبيا بأوامر أردوغان قد يكون ردّ البضاعة إلى صاحبها، ولكن مع تضاعف العدد، والذي يتجاوز عشرات الآلاف، ومع احتمال وصول المزيد من هؤلاء إليها بأوامر من أردوغان سوف ينتشر الإرهاب في أنحاء الساحل الإفريقي، من موريتانيا إلى مالي إلى بوركينا فاسو، النيجر، وتشاد.. وسوف يشكّلون بأقل فترة من الزمن تهديداً لكل من مصر والجزائر، الأمر الذي يؤكد وجود مخطط أمريكي صهيوني تشترك فيه تركيا منذ أحداث أيلول 2001 في أمريكا وحتى يومنا هذا، مخطّط يستهدف العراق، ليبيا، سورية، اليمن، أفغانستان، وإيران، إضافة إلى تضمينه التناقض الليبي القائم بين حكومتي حفتر والسراج كي يفني بعضهما بعضاً.
الانهيار السريع للمجموعات الإرهابية أمام تقدّم الجيش العربي السوري وغياب التصريحات الرنانة لقادة هذه المجموعات الإرهابية وعلى رأسها “جبهة النصرة”، يشير إلى انهيار هذه المجموعات وهروبها باتجاه الأراضي التركية تمهيداً لترحيلها، أما التصعيد الكلامي، والتحشيد الميداني لأردوغان الخارج عن الشرعية الدولية فهو مسألة عرض عضلات لا أكثر، وعلى الرغم من صعوبة التكهن بالتطورات القادمة في مدينة إدلب فإن هذه التطورات لن تكون في مصلحة أردوغان في ظل تصاعد المعارضة الداخلية التركية بمواجهته، رفضاً للتورط العسكري ليس مع الجانب السوري فقط، وإنما مع حليفه الروسي أيضاً، فإدلب ستكون المدينة التي لن تحدّد مستقبل سورية ونهاية المعارضة المسلحة الإرهابية فقط، وإنما مستقبل أردوغان السياسي كزعيم لتركيا أيضاً.
بقي أن نقول إن سورية اليوم تدافع عن جميع العرب لنسف كل المخططات الأمريكية الصهيونية، ومنها الطموح الأردوغاني العثماني، وعلى كل عربي شريف أن يدرك أن الشعب العربي السوري في مواقفه هذه يدافع عن العرب والعروبة التي تقع في دائرة الأهداف الأردوغانية، كما عليه أن يدرك أن أردوغان يتجه إلى الحرب كلما واجهته أزمة لها علاقة ببقائه على رأس الحكم في تركيا، لكنه لا يفهم ولا يريد أن يفهم أنه يجرّ تركيا والمنطقة إلى أزمة دولية وإلى المزيد من الحروب المدمّرة.