أمثولة البهاء
سلوى عباس
يحتفل العالم هذه الأيام بيوم المرأة العالمي، وهل هناك أحق بهذا الاحتفاء من المرأة السورية، خاصة وأنها من أهم الأيقونات المستهدفة في هذه الحرب المجنونة التي استهدفت الهوية السورية، فالمرأة السورية عالم غني وجذاب رغم ما يكتنفه من معاناة وألم وحزن، وجدت نفسها في سياق تاريخي واجتماعي صعب، تواجه حروباً دموية وأخلاقية ووجودية، لكنها لا تفقد ما منحتها إياه الطبيعة من مشاعر الحب والتضحية والإرادة، المرأة السورية كأيقونة حياتية، هي تلك الإنسانة التي تحمل في روحها عبق الحياة، يلجأ إليها أبناؤها ليستمدوا منها القوة ويتجاوزوا ما يرهقهم، وهي المتعبة بأثقال الحياة.. هي الإنسانة الوحيدة التي تشبه روحها وذاتها كثيراً.
ومع كل جلال المرأة- الأم تبقى أم الشهيد أجمل الأمهات لأنها تعالت على قلبها، وعلّمت أولادها أن النصر لا يأتي بالكلام والشعارات.. وهي أسمى الأمهات لأنها لقنّت أولادها كيف يسلكون درب البطولة، فإذا كانت الأم مدرسة كما وصفها الشاعر، فالأمهات السوريات، يمثّلن مدرسة من تضحية وكبرياء في إعداد أبطال شكلوا طوقاً من ياسمين زيّن جيد الوطن، وكانت تضحياتهم عبقاً يحمل نسائم العزة والفخار، ومن استشهدوا منهم رسموا باستشهادهم عزة أمتهم ووطنهم وكل من ينتمي إليهم ويسير على دربهم.
اليوم وبعد سنوات تسع من عمر الحرب ما زالت أم الشهيد أيقونة للأعياد، أم الشهيد التي لفحت حصرمها ريح البغاء تحولت حبة عنب تعطي دناً من خمر عتيق، تزين أرواحنا بالبهاء، ومع كل شهيد تفسح في نفوسنا حيزاً لانبثاق حياة، فسبحان من أعطاها هذا السر، وسخّر لها تلك المعجزات، وأولاها شأن أن ترسل من صبرها غمامة من بهاء الحياة تحيينا من مواتنا، وتغسل الكون بمائها المعسول بالصبر والأحلام وصيرورة الحياة.
سنوات تسع وما زالت أم الشهيد تحلّق في سماءات لا نعرفها، أم، استلت أرواحنا من رمادها وأشعلت فينا دفئها المدهش، استمطرت نجومها على قلوب أبناء ناداهم الواجب فلبوا النداء، أم أمسكت بأبناء قلبها وقرأتهم ككتاب، فهدأت أرواحهم بين يديها وأسكنت فيهم السلام، واختصرت أبجديات اللغات، وكانت الأمينة على الرسالة التي وهبتها إياها الحياة.
أم الشهيد.. ننحني أمام عظمتك وإيمانك، فسماؤنا أضيق من غمامتك الظليلة، وقامتنا أقل من زنابقك المخملية، ملامحك الشامخة ترسم لنا سياجاً من إحساس ورهبة بعظمة تضحياتك.. فأنت اختصرت النساء والأمهات.. أنت التي تحديت الموت بقدرتك على الصبر.. بإيمانك أن الوطن غالٍ ويستحق منا الكثير.. أنت كنت الشهيدة الأولى عندما غادرك أبناؤك ليعيش الوطن.. كيف لا ننحني أمام عظمة الفاتحة التي قرأتها لأرواح أبنائك وأنت تدارين ألمك بألا يفلت منه شيء أمام أطفال أرّقهم اليتم وسرت إيقاعات خطاه في قلوبهم، وأيقظت همجيته الصامتة قلقهم وأناتهم التي تخلخل ذرات الهواء مما سيعيشونه في الغد.. في هذا اليوم نناشدك ألا توقفي إكسيرك الرائع.. ولا تقللي من جرعاتك لمن يحتاجها، ولا تبعدي غمامتك الجليلة عن أرواحنا.. أنت ملحمة العطاء وينبوع الحنان والحب الصادق، يكفيك فخراً أنك قدمت بروحك ووجدانك أجمل هدية للوطن.
طوبى للمرأة السورية على صمودها وعطائها وتفانيها من أجل أبنائها ووطنها، وطوبى لأم الشهيد التي تتعالى على جراحها لتبقى حاملة لأحلام أبنائها وأحفادها، تلمّ أجزاءهم وقت انفجاراتهم، وتهزج في قلوبهم أعراس المجد والكرامة.