الثورة.. ومعجزة الصمود
د. صابر فلحوط
أضمومة من رفاق الدرب الطويل أدمى عيونهم والقلوب جرح الانفصال الأسود 1961، هم الذين صنعوا أقدار ثورة الثامن من آذار 1963..
ولعل عظمة -الحدث- أنه كان تأسيساً لأدوار هائلة لعبتها سورية العريقة، تشييداً لإنجازات عملاقة في تاريخ باذخ من البناء والعطاء وحرية الكلمة واستقلال القرار الوطني والقومي..
وقد كان معظم هؤلاء الرفاق والأصدقاء يعملون تحت خيمة الفكر البعثي المكتنز قومية ووحدوية ووطنية. فمنهم المسرّح من القوات المسلحة، أو المحال على الخدمة في السلك الخارجي، أو المودع في سجون الانفصال البغيض.
وقد بدأت إرهاصات ثورة الثامن من آذار، لدى هؤلاء الرفاق، مُتساوقة مع إعلان -الانفصال- ووقوع الوطن في شباك السفارات الأجنبية، وحلفائها من الرجعية المتحالفة مع الصهيونية..
وقد كان كلمة السر الأصدق، والعقل الاستراتيجي الأرجح، هو الرفيق القائد المؤسس حافظ الأسد الذي بدأ يبلور الخطط، ويضع الدراسات، ويحشد الرفاق والأصدقاء عندما لاحظ أن سفينة الوحدة بدأت تستكين لرياح المؤامرات التي تضربها من جميع الجهات من داخل الديار، وخلف البحار.
وتحالف ضدها الألدان، نواطير النفط والصهيونية العالمية، إضافة إلى الحال التي وصل إليها الإقليم الشمالي غداة تسليم أموره إلى المشير عبد الحكيم عامر الذي استراح على مخدات الثقة التي أولاها للذين دبّروا مؤامرة الانفصال الأسود من ضباط الهوامش في الجيش الأول..!!.
سأل أبو جعفر المنصور الفيلسوف العربي أبو يعقوب الكندي: كيف زال مجد بني أمية، وقد كانت دولتهم أمنع من عقاب الجو، ولا تغيب عنها الشمس، فقال له: (لقد سايروا أعداءهم، وقربوهم طلباً لصداقتهم، وباعدوا أصدقاءهم توثقاً من مودّتهم، فخسروا أصدقاءهم ولم يربحوا أعداءهم). ولذلك زالت دولتهم!!.
وكان حبل (الود والإعجاب) قد اعتراه الوهن، بين ثورتي آذار في سورية، وشباط في العراق، من جهة، والزعيم الخالد جمال عبد الناصر من جهة ثانية بعد محادثات -ماراثونية- رجع منها الأفرقاء، كل إلى متراسه!! حتى جاءت النكسة -الحزيرانية- لتضمّد جراحات القلوب (ولو على زعل) لفترة قصيرة كان ختامها فجيعة الأمة العربية برحيل الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، وغرق العراق في انقلاباته معظم عقد الستينيات، وانشغال أبناء ثورة آذار في صراعات -الإخوة الأعداء- في حرب الشعارات والنظريات التي سادت تلك المرحلة بين (يمين يعيش خارج الزمن) ويسار يحاول تقليد الآخر، فيخسر تقاليده، حتى كان الميلاد الجديد، للبعث الأصيل، والثورة البانية مع الحركة التصحيحية التي قادها الرئيس المؤسس حافظ الأسد 1970، وانطلاقة الثورة والبعث في عملية البناء الجديد، الذي اقتلع من القاموس العربي السوري كلمة انقلاب عسكري أو تحرك معادٍ لأهداف الجماهير ومبادئ حزبها العروبي وتوجهاته الوطنية والقومية.
ولعل أكثر صور ثورة آذار إشعاعاً هي التي جذّرها القائد المؤسس حافظ الأسد، مؤسس سورية الحديثة، وتتمثّل في عناوين ساطعة يمكن الإشارة إليها بتكثيف دقيق حسبما يقتضي المقام وهي:
1- إرساء قواعد العمل السياسي في الوطن، والذي تجلّى بقيام الجبهة الوطنية التقدمية.
2- ترسيخ مبادئ الديمقراطية، فكان مجلس الشعب الذي يختار فيه المواطنون ممثليهم إلى الندوة -البرلمانية- كل أربع سنوات بدقة لافتة في الموعد المحدد وحرية القرار والاختيار..
3 – إعداد الجيش العقائدي الذي حقق أرفع درجات النجاح في الاختبارات الميدانية، بدءاً بالغاء الفكر الانفصالي والطائفي من ذهنية الأجيال، ومروراً بالامتحان الأصلب في حرب تشرين التحريرية، إضافة إلى مواجهة الفكر الظلامي الإسلاموي في الثمانينيات، وانتهاء بالانتصار الأشجع، والأروع في الحرب الكونية على سورية العربية، والتي تحالفت فيها وحوش الصهيونية مع الرجعية النفظية على امتداد جغرافية الوطن والعالم، فكانت الحرب الوطنية العظمى المتفردة في التاريخ في أمرين غير مسبوقين، وهما: لأول مرة في التاريخ تواجه دولة محدودة الإمكانات (الديمغرافية والجغرافية) أكثر من مئة دولة بكل طاقاتها التكنولوجية والإعلامية والنفطية.
والثانية: لم يسبق لجيش نظامي يخوض حرب عصابات في الأرياف والمدن، والشوارع والجبال، ويحقق الانتصار. والأمثلة في فيتنام والجزائر شواهد صدق على ذلك، وهذا ما يجعل اعتزاز شعبنا غير محدود بجنوده، سواء كانوا من أبناء الأرياف المحرومة، أو المدن المؤمنة بالبعث قدراً وسبيلاً لاستعادة العظيم من تاريخ هذه الأمة.
وحسب ثورة آذار التي يحتفل الرفاق البعثيون وأصدقاؤهم هذه الأيام بذكراها على امتداد الآفاق العروبية في الدار القومية، أنها منذ ميلادها 1963 وهي تطوي السنين والعقود، وهي تتألق شباباً مراكمة الإنجازات، ومرسخة جذور منطلقاتها في تربة الوطن، وقلوب جماهيره، في الوقت الذي ولدت فيه عشرات الأحزاب والحركات والثورات، وانطفأت لأنها لم تمتلك مقومات الخلود والاقتدار الذي اتصفت به ثورة آذار. والذي منحها شرف الاستمرار، ومغالبة الصعاب، وامتلاك ناصية الديمومة في أذهان الناس، والتفاني من أجل مستقبل العروبة الحضارية..