من وحي آذار الثورة
الدكتور سليم بركات
في الثامن من آذار عام 1963، أعيد ترتيب الخارطة السياسية في المنطقة العربية، وبما ينسجم مع المد القومي العربي الذي تبنّته سورية العربية عبر تاريخها الحديث والمعاصر.. ترتيب بدأ بالبلاغ رقم واحد الذي انطلق من إذاعة دمشق معلناً القضاء على الانفصال الذي اغتال حلم الشعب العربي، وفي الطليعة الشعب العربي السوري الوحدوي، والمتمثّل بوحدة سورية ومصر 1958 (الجمهورية العربية المتحدة).. حلم لو استمر لما كان الظلاميون والتكفيريون برابرة هذا العصر قد تمكنوا من فعل ما فعلوه في الوطن العربي، ولاسيما في سورية التي تحطمت على أسوارها جحافل الغزاة، وقامت فيها أوائل الحضارات البشرية.
في إطار هذا الفهم، لابد لنا من أن ندرك أن الطريق الذي اختارته سورية بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي لم يكن سهلاً، كونه الطريق الأكثر جهداً وتضحية وعطاءً، وإذا كانت ثورة آذار قد عانت الكثير منذ قيامها وحتى استقرارها في الحركة التصحيحية، فلأنها واجهت رواسب الماضي، وصارعت المصاعب التي مرت بها، وكانت كلما اصطدمت بظروف صعبة خرجت منها منتصرة، وهي تعاود تأثيرها الاجتماعي المعزز بالإنجازات، حتى كان الاستقرار بقيام الحركة التصحيحية بقيادة القائد المؤسس حافظ الأسد في 16 تشرين الثاني 1970.
منذ فجر التاريخ العربي وسورية تلعب دوراً نضالياً في الساحة العربية، وتعيش حدود الوطن العربي الكبير حتى في نشيدها الوطني الذي لا يتضمن كلمة واحدة تشير إلى إقليميتها، بل كل كلمة فيه تمجّد العروبة، وتخلّد مفاخر العرب وبطولاتهم، ويشهد بذلك اندفاعها نحو قيام الجمهورية العربية المتحدة عام 1958، وغير ذلك من الاندفاعات الوحدوية التي يزخر بها تاريخ العرب الحديث والمعاصر.. اندفاعات حاربتها الرجعية العميلة حتى لا يكون أي تقارب عربي عربي.
جميع المعطيات التي رافقت ثورة الثامن من آذار كانت تهيئ لقيام الحركة التصحيحية، هذا الحدث العربي الكبير، الموضوعي والعقلاني، والبعيد كل البعد عن المتاهات الفكرية، والتخبطات العشوائية، والتفكك والعزلة. زد على ذلك أن نتائج حرب حزيران الكارثية على مستوى الوطن العربي، كانت قد جعلت من التصحيح ضرورة ونتيجة حتمية لإنقاذ الثورة والحزب، ومطلباً جماهيرياً عبّر عنه القائد المؤسس حافظ الأسد بقوله: “لا نجاح إلا بالشعب ولا انتصار إلا بالشعب، لأن إرادة الشعب هي إرادة الخير، وإرادة الخير هي إرادة الله، وإرادة الله فوق كل إرادة”.
لم يكن الثامن من آذار إنقاذاً لسورية من أنياب الانفصال فحسب، وإنما كان ثأراً للعروبة الجريحة ومولداً لفجر عربي أصيل.. كيف لا ومواقف هذه الثورة تنبض بالحياة في قلب أمة حرة كريمة لا تتوقف عن العطاء المستمر! وهل نبالغ إذا قلنا إنه وحتى زمن قريب كانت الامبريالية العالمية المتحالفة مع الصهيونية هي من يخطط لمسيرة ومستقبل الأمة العربية، وغالباً ما كانت تصل إلينا هذه الإرادة بأصوات عربية مسؤولة؟
لقد جعلت ثورة الثامن من آذار من سورية العربية قلعة من قلاع الصمود والمقاومة، كما جعلت من القضايا العربية وفي الطليعة القضية الفلسطينية محوراً للنضال العربي، فعلت ذلك وهي تواجه الالتحام المصيري الصهيوني الامبريالي الرجعي لتفتيته. إنها بامتداداتها النضالية، ومن يحذو حذوها من شرفاء الأمة العربية في مثل هذه الظروف القاسية التي يمر بها الوطن العربي في مواجهة الإرهاب وداعميه، مستمرة وباقي محور المقاومة في الصمود، لا تفرّط بأرض أو بكرامة مهما كانت شدة المعارك التي تقرع الأبواب، وهل نجانب الحقيقة إذا قلنا: إن معركة سورية مع الإرهاب هي معركة الأمة العربية بكاملها، فسورية بشعبها وجيشها وقيادتها وقائدها تعيش هذه المواجهة، وهي في كامل الاستعداد للاستمرار بها حتى يكون الانتصار، وهي اليوم في الموقف الأقوى، لأنها اختارت المقاومة، وما تقهقر شعب آمن بقضيته، وصمد إلا وحقق الانتصار.
بقي أن نقول: إن ثورة آذار كانت ومازالت ثورة آذار جريئة في مواقفها، وكيف لا يكون ذلك، وقد ولدت هذه الثورة في جو الصراع، واستمرت فيه، وهي تصارع الامبريالية والصهيونية والرجعية، وهذا لا يعني أنها لم تتعرض لمناورات داخلية وخارجية يضيق عنها الحصر، لكنها تغلبت على ذلك، وهي تجدد نفسها، وتطور أساليبها مع الزمن، تغيّرت فيها وجوه، وتغيّرت فيها سياسات، لكن أهدافها لم تتغير.