الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

كتاب يبحث عن عنوان

 

د. نضال الصالح

ما سبق أعلاه هو العلامة اللغوية نفسها التي اختارها الأديب د. إسكندر لوقا لمجموعته القصصية، والمتبوعة بعلامة لغوية فرعية هي: “قصص قصيرة من زمن الحرب في سورية”، وقد آثرت هذه العلامة، المركزية، لما تتضمنه من إيحاءات ودوالّ تعني، ممّا تعنيه، وربّما أوّل ما تعنيه، حيرة القاصّ نفسه في اختيار عنوان غير مباشر لمجموعته، عنوان يفتح شهية القارئ لمعرفة ما تحيل عليه من مؤرّقات الكتابة وشواغلها التي سرعان ما تفصح عن نفسها عبر العلامة الفرعية، والتي تجهر بهذه المؤرقات والشواغل بوصفها متناً في دوافع الكتابة وحواملها من جهة، وجذراً في محكيات القصص ومقاصدها من جهة ثانية.
بين غلافي المجموعة إهداء، وكلمة، وواحد وأربعون نصاً قصصياً، فالسيرة الذاتية للقاصّ، وثبت بمؤلفاته، ثمّ آخر بما أعدّه للنشر وما شارك في إعداده. وبدءاً من الإهداء يتعرّف القارئ إلى العلامات الكبرى لتلك المؤرقات والشواغل، والمحكيات والمقاصد، ثمّ في “البدء بكلمة” إلى وعي القاصّ بالجرح السوري النازف قبل السنوات التي سبقت إصداره المجموعة، وإلى رؤيته الشخصية، بتعبيره، لما كابد السوريون، ويكابدون، من أحزان بسبب ما تناسل في وطنهم من الدم والدمار والخراب.
ولعلّ أبرز ما يميز النصوص التي يوثّق القاصّ فيها لهذا الجرح أنّ كلّ نصّ منها يستقلّ بصورة واحدة من متوالية الإرادة والثبات والصمود الشعبي الباهر في مواجهة ثقافة الموت، ومتوالية التضحية والفداء والكرامة في مواجهة ثقافة الخنوع. ولعلّ أبرز ما يميزها أيضاً أنها نصوص عابرة للهويات تحت الوطنية، نصوص مشغولة بالجغرافية السورية من أقصاها إلى أقصاها، اثنياً ودينياً ومذهبياً، وعلى نحو يؤكّد إشارة القاص في “البدء بكلمة” إلى ما اتسمت سورية به طوال تاريخها، أي ما يعني الإنسان وما يدافع عن إنسانيته، وما يعلي من شأن الإنسانيّ فيه بوصفه إنساناً قبل أيّ اعتبار آخر.
في النصوص جميعاً ثمة عين رهيفة تلتقط النموذجي في الشخصية القصصية، وتعبّر عنه باقتصاد لغوي لا أثر للواقع فيه بتعبير الناقد الفرنسي “رولان بارت”، أي خلو النصّ من الجزئيات والتفاصيل التي لا وظيفة لها في النصّ، وعلى نحو دالّ على أنّ القاصّ لا يعنيه من أمر الكتابة سوى ما يعني الكتابة نفسها، أي التي تذهب إلى مقاصدها من دون أن تستغرق طاقة التخييل فيها فيما لا يعني هذه المقاصد، وعلى نحو دالّ بآن أنّه، أي القاص، يدرك تماماً أنّ أيّ كتابة مؤرقة بهذا الجرح السوريّ تستلزم إرادة واضحة من الكاتب بأن يقول ما يجب قوله من دون فائض سرديّ أو فنّي يمضيان بالكتابة إلى هوامش المحكيّ بدلاً من متنه، ومن فضائه الدلالي إلى آخر لا يعنيه.
وبعد، فإنّ “كتاب يبحث عن عنوان” ضرورة إبداعية تعيد الكتابة السردية الضالّة التي عنيت بالأحداث في سورية إلى أرض الحقيقة بعد أن أمعن غير قليل من النتاج السردي الموقّع بأقلام “سوريين” بالهويّة في الزيف، والتزييف، والتدليس، وقراءة الواقع واقفاً على رأسه بدلاً من وقوفه على قدميه.