ثقافةصحيفة البعث

الأدب العالمي

محمد راتب الحلاق

عبارة (الأدب العالمي) ملتبسة، فهي لا تعني الأعمال الأدبية التي تم تداولها خارج نطاق المجال الثقافي واللغوي الذي أنتجت فيه، ولا الأعمال الأدبية التي تتناول قضايا إنسانية عامة عابرة للثقافات واللغات، ولا الأعمال الأدبية التي تجاوزت المحلية، ولا جملة الأعمال الأدبية المنتجة في اللغات والثقافات الإنسانية عموماً.. وإنما تعني، للأسف الشديد، تلك الأعمال الأدبية التي نالت (شرف) الاعتراف بها من قبل بعض المؤسسات الغربية التي تمنح الجوائز وصكوك الشهرة لمن يلتزم بالمعايير والرؤى التي وضعتها تلك المؤسسات؟!! مع أن تلك المعايير لا تنبع من ضوابط جمالية وفنية صرف، فالسياسة حاضرة بصورة فاقعة في قرارات تلك المؤسسات إلى الدرجة التي لم تعد تحتاج معها إلى إثباتات، كما أن تلك المعايير تخضع إلى ذوق المتحكمين في الدراسات النقدية والأدبية في الغرب، الذين يملكون وحدهم الحق في الحكم على آداب الآخرين وتقويمها، بحكم امتلاكهم القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية المهيمنة، مما أتاح للدول الغربية أن تهيمن على العالم ثقافياً وفكرياً إلى جانب الهيمنة السياسية والاقتصادية والعسكرية، فنظرية الأدب الغربية، ومدارس النقد الغربية، تنبع من مقولات المركزية الأوروبية.
ومن خلال الصرعات النقدية الغربية التي تتالت على دول الأطراف عبر الترجمات، وعبر بعض المبهورين من الذين درسوا في جامعات الغرب ومريديهم وطلابهم، يتم تصنيع ذائقة أدبية ونقدية (معولمة) هدفها تنميط ذائقة الشعوب وتوحيدها، فمدارس النقد الغربية تحاول أن تتحكم في الذائقة الفنية والأدبية عند الأمم والشعوب، مثلها في ذلك مثل المقولات الغربية الأخرى، التي تتحكم في المجالات السياسية والاقتصادية والفكرية. وكما يفعل الضعاف والمهزومون عادة يقوم كثير من الأدباء والنقاد في دول الجنوب بتقليد الأدب الذي ينتج في الغرب ومحاكاته بدل مضارعته ومنافسته والحوار معه؟! مع أن الدراسات الموضوعية قد أثبتت أنه ما من أديب من أدباء دول الجنوب حاز اهتماماً خارج نطاق لغته وثقافته إلا إذا انطلق من بيئته المحلية ومثّلها أصدق تمثيل؟!. ‏
وعندما يدقق الباحث النزيه والمنصف سيجد أن العظمة التي حظي بها الأدب الغربي لم تكن نابعة من قيمته الذاتية دائماً، وإنما من القوة والهيمنة التي تتمتع بها الدول الغربية، في أوروبا وأميركا الشمالية؟! ويسخر أحد كبار النقاد الهنود من التراتبية التي تصنف بموجبها آداب الأمم والشعوب قائلاً: لو أن الهند هي التي غزت أوروبا وهيمنت عليها وكانت بحالة من القوة كتلك التي تتمتع بها الدول الغربية، لكان الأوروبيون قد نظروا إلى تراثهم الأدبي نظرة دونية، وربما تبرؤوا من هوميروس ودانتي وشكسبير ووصفوا أعمالهم بالهمجية والبدائية والانحطاط..؟!. ‏
أرجو ألاّ يظن أحد أنني أنحاز إلى جانب الإقليميين من الدارسين والنقاد الذين يشتغلون في مجال الأدب المقارن، ممن وزعوا النتاج الأدبي على أسس جغرافية، لأن هؤلاء قد وقعوا في مطبات قادتهم، من جملة ما قادتهم إليه، في حالة الأدب العربي والثقافة العربية، إلى تفتيت التراث الأدبي العربي الواحد إلى تراث أقاليم ومناطق؟! كما قادتهم إلى مضاهاة الآداب العالمية المعاصرة بالأدب العربي القديم، بينما المفروض أن تتم مضاهاة الأدب العربي المعاصر بالآداب العالمية المعاصرة أيضاً، نعم قد يكون أدبنا العربي القديم مهماً في تراكم رأسمالنا الرمزي والثقافي، ولكنه يغدو عبئاً ومن دون قيمة حقيقية إذا لم يشكل حافزاً لتخطيه وتجاوزه وتطويره، شرط أن يتم ذلك انطلاقاً من تميزه.