أزمة العالم الرأسمالي
عناية ناصر
في بداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، يزداد الوضع الدولي توتراً، لكن هذا مجرد انعكاس جديد للتغيّرات الكبيرة غير المرئية في قرن من الزمان، وأحد الأعراض الأخرى التي تشكّلت عندما وقع النظام العالمي الرأسمالي في نموذج النيوليبرالية الذي اتخذه في أزمة منهجية.
لا شك أن الاقتصاد العالمي يمرّ بفترة تاريخية خاصة، إذ لا يزال في ظل الأزمة التي اندلعت قبل أكثر من 10 سنوات. لقد كان النمو الاقتصادي بطيئاً لفترة طويلة، ولا يزال مستوى الدين مرتفعاً، ومعدلات الفائدة السلبية تنمو، والفجوة بين الأغنياء والفقراء مستمرة في الاتساع.
قبل 40 عاماً، وفي مواجهة أزمة “الركود” الاقتصادي، اختارت الدول الغربية، من خلال تبني النيو ليبرالية، أن يسيطر رأس المال الاحتكاري تدريجياً على القوة السياسية والاقتصادية والثقافية في البلدان الرأسمالية الغربية، حيث أخذ رأس المال بإلغاء الحواجز الاجتماعية وتسهيل الإنتاج والتبادل والتوزيع والاستهلاك، وإعادة تشكيل العالم بما يتماشى مع طبيعته، وجاءت الجولة الأخيرة من الأزمة المالية والاقتصادية العالمية تكريساً شديداً لهذا التناقض.
لقد أكدت الأزمة المالية في عام 2008 فشل النيوليبرالية، كما أتاحت فرصة تاريخية للدول الغربية لتعديل سياساتها وفقاً لذلك. ومع ذلك، سحب رأس المال المالي نفسه من الأزمة بذريعة تزويد السوق بالأموال العامة. ونتيجة لذلك، لم يعانِ رأس المال المالي من نكسة فحسب، بل ازداد قوة منذ الأزمة.
في هذه العملية، ومن أجل توفير رأس المال المالي، ارتفع مستوى الدين الوطني في الدول الغربية بشكل حاد، مما أدى إلى زيادة نسبة الدين القومي في الناتج المحلي الإجمالي في هذه البلدان بمعدل 30 نقطة مئوية. بعد ذلك، اتخذت الولايات المتحدة ودول أخرى المزيد من التخفيضات الضريبية لتحفيز الاقتصاد، مما أدى إلى تفاقم الأزمة المالية.
تتبنّى الدول الغربية عموماً سياسات نقدية فضفاضة للغاية، فمن ناحية، يتمّ تخفيض أسعار الفائدة بسرعة إلى مستوى منخفض للغاية، ومن ناحية أخرى، يتمّ ضخ كمية كبيرة من رأس المال في السوق من خلال جولات متعدّدة من التسهيلات النقدية. الهدف من هذه السياسة هو تسهيل قيام الشركات والأسر بالاقتراض بتكلفة منخفضة للغاية، ومن ثم يمكن زيادة الاستثمار والاستهلاك. وبسبب التباطؤ الاقتصادي والتوقعات المتشائمة للمستقبل، تحاول العديد من الشركات والأسر تقليص الديون كون النمو البطيء للاستثمار والاستهلاك يؤدي إلى ركود طويل الأجل للاقتصاد.
تفشل السياسات النقدية الفضفاضة للغاية في عكس اتجاه تدهور الاقتصاد، وبدلاً من ذلك، فإنها تحفّز التوسع في فقاعات الأصول، ووفقاً للبيانات التي قدّمها “غلوبال هاوسينك ووتش”، وهو موقع إلكتروني ملحق بصندوق النقد الدولي، مع وضع التضخم جانباً، فقد تجاوز مؤشر أسعار المساكن العالمي أعلى مستوى له قبل الجولة السابقة من الأزمة.
حتى في الدول الغربية، حيث لم تنتعش أسعار المساكن بالكامل بسبب التراجع الاقتصادي، فإن أسعار المساكن في بعض المدن أصبحت أعلى بكثير من ذي قبل.
والوضع في سوق الأسهم أسوأ، فقد تجاوزت مؤشرات الأسهم في العديد من البلدان أعلى مستوياتها قبل الأزمة. الولايات المتحدة هي الأكثر نموذجية، حيث سجّلت مؤشرات أسهمها مستويات قياسية جديدة في السنوات الأخيرة. وفي مواجهة هذا الوضع، تواجه سياسات الاقتصاد الكلي للدول الغربية معضلة، إذ لا يوجد مجال كبير لسياسات التوسّع، والتي قد تزيد من تفاقم فقاعات الأصول، في حين أن السياسات الانكماشية قد تخترق الفقاعات مباشرة وتؤدي إلى الأزمات. وما يجعل الأمور أسوأ هو أن الثروة الجديدة للعديد من البلدان تتدفق إلى الأغنياء بشكل أساسي، وتتسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء. علاوة على ذلك، من الصعب قبول أن العديد من تدابير الإصلاح التي يحتاجها المجتمع الغربي بشكل عاجل، وتهدف إلى كبح المضاربات المالية والاحتيال وتخفيف تناقضات النيوليبرالية الليبرالية، لا يمكن تنفيذها بسبب مقاومة رأس المال الاحتكاري.
وهكذا تتحوّل الأزمة المالية والاقتصادية في الدول الغربية تدريجياً إلى أزمة اجتماعية وسياسية خطيرة. والأكثر من ذلك، فإن الأيديولوجية السائدة في الغرب، بما في ذلك النيوليبرالية، لا يمكنها تفسير أو حلّ التناقضات المنهجية والمؤسسية الحالية للرأسمالية، لتصبح الأزمة الثقافية أكثر حدّة!.