بانتظار الجولة القادمة

لم يكن “اتفاق موسكو” الأخير بين روسيا وتركيا، في ممكناته ومحدداته ووسط الوقائع الفعلية، سواء التي أنتجته أو المحيطة به، سوى نتيجة منطقية وحتمية، لعوامل عدّة على رأسها الحسم المذهل والسريع لمعركة “سراقب”، فيما لم تكن بنوده بمندرجاتها وتفاصيلها، كما بإمكانية وضعها موضع التنفيذ، وهو الهدف الرئيس كما يفترض الأمر، سوى إعلان بيّن عن هدنة، لا يبدو أنها طويلة، بين معركتين – حسم السوريون أولاهما – بانتظار الجولة القادمة حتماً.
وبالطبع للاتفاق العتيد جوانب عدة – كلها صحيحة ومحقّة – يمكن رؤيته من خلالها، فهو أولاً – ومهما حاول بعض المهزومين من الداخل تكييفه – انتصار سياسي للدولة السورية بُني على خلفية انتصار عسكري لافت، ودليل ذلك الأول، والأكبر، مشهد ارتباك أردوغان الشهير وهو يصافح، بعد انتهاء القمة مع بوتين، وزير خارجيته بدل الوزير الروسي، ودليله الثاني سعيه الدائب بعدها للتغطية على الفشل عبر المبالغة في “انتصاراته” المزعومة، كما في عدد الشهداء السوريين الذين، تُثبت الوقائع والشهود، حتى مما يسمى “المعارضة”، أنه لم يسقط هذا العدد منهم إلا بمدفعيته الكلامية وعلى منابره الإعلامية.
وهو ثانياً، أي الاتفاق، فرصة جديدة، من جهة أولى – وقد تكون الأخيرة – تُمنح لكاذب ومراوغ، أو لـ”ذبابة جديدة” – كما وصفه الأمريكي “جيمس ستافريديس”، وهو قائد عسكري سابق لحلف الناتو – علّ وعسى يقنع بالتراجع عن رهاناته الخاطئة، فتتجنّب المنطقة بأكملها، حريقاً لا داعي له، كما أنه، من جهة ثانية، فرصة، وقد تكون الأخيرة أيضاً، لتثبيت الاستثمار الروسي الكبير والطويل في العلاقات مع أنقرة، علّ وعسى، مرة ثانية، تواصل هذه الأخيرة “ما درج البعض على تسميته “الانزياح الاستراتيجي” لتركيا نحو الكتلة الأوراسية بعيداً من الرابطة الأطلسية”، لما فيه، أولاً، من خير لتركيا ومصلحتها الحقيقية في أن تكون دولة طبيعية وفاعلة في مجالها لا أن تكون مجرد “دولة جناح” للمخططات الغربية، وما فيه ثانياً، من خير للمنطقة ومستقبلها ونظامها الإقليمي ذاته.
بيد أن الوقائع التي يشي بها ماضي الرجل وطموحاته المعلنة ورهاناته المغامرة، كما يشي بها أيضاً استمراره في “العسكرة”، وإدخال مزيد من العتاد والرجال إلى الداخل السوري، تؤكّد أنه، كشخص وكمشروع، لم ولن يستطيع هضم ما حدث له، ولمشروعه الداخلي والخارجي، على أسوار سراقب وبين أحيائها، خاصة وهو يرى رفاقه السابقين يتخلّون عنه واحداً إثر الآخر، وآخرهم حليفه ونائب رئيس وزرائه السابق علي باباجان الذي أعلن بالأمس عن حزبه الجديد، وربما كانت إطلالات أردوغان الإعلامية المتتالية بعد الاتفاق وحكاياته المتوتّرة، وحديثه المرتبك، والموجّه بالدرجة الأولى للداخل التركي، دليل على أنه كمن يقف على حد سكين، لا يستطيع النزول عنها إلا مجروحاً، وبالوقت ذاته لا يقدر، ولا يمكن له، بحقائق الواقع والميدان، البقاء فوقها، ولا حلّ، بالتالي، إلا بافتعال جولة معارك جديدة لا يبدو أن توقيتها سيطول، لكنها، بحقائق الواقع والميدان مرة جديدة، قد تكون الأخيرة، فإذا كانت السابقة قد أظهرت ضعفه ومحدودية خياراته بعد أن تخلّى الحلفاء عنه، فيما مدّت له موسكو حبل النجاة، فإن هذا الحبل ذاته سيكون أوهى وأرق في الجولة القادمة ما لم يرتدع الرجل.. ولن يرتدع، كما يبدو، إلا بالقوة.
أحمد حسن