من الصين إلى سورية.. المعطيات الجيوبولتيكية الجديدة
هيفاء علي
“سيشهد العام الجاري 2020 معطيات جديدة في الجغرافيا السياسية، وتأكيد القوة الروسية، والنهوض الصيني، والأفول الأمريكي”. هذا هو محور مقال معمّق للكاتب والدبلوماسي الفرنسي، ميشيل ريمبو، السفير السابق ومؤلف كتب عدة حول الشرق الأوسط وسورية.
يبدأ الكاتب مقاله بفصل التطورات كل على حده فيتحدث في البداية عن: خراب القانون الدولي.
ليس بالضرورة أن يكون المرء خبيراً ليرى خراب القانون الدولي. وبعد فحص الوظائف الإضافية، سيرى عملاً مبرمجاً يقوّض العمل، مستوحى من “الفوضى الخلاقة” لـ ليو شتراوس، وهي وصفة تسمح للإمبراطورية بتحييد العقبات التي تحول دون هيمنتها بتكلفة منخفضة.
إن الاستغناء عن الناتو وتشخيصه بأنه “في حالة موت دماغي”، من قبل الاليزيه هو تأثير جيد، لكنه يتجنّب مسؤوليات “العالم المتحضر” في انهيار الحياة الدولية، أو ما يجب تسميته بحطام سفينة فكري ومعنوي يأتي في أشكال عدة: فشل وإفلاس الأمم المتحدة وميثاقها، ونهاية الشرعية وقانون الغاب، وتزوير الكلمات وإساءة استخدام المفاهيم، والتخلي عن عادات الدبلوماسية والمجاملة والبروتوكولات.. الكثير من الخطوات نحو الجحيم، حيث يتضرّر الغرب الذي أصابه العمى عن طريق دجال تحول إلى عصابات، والنظام الجديد في طور التكوين، إذ تريد الكتلة الأوراسية الصاعدة أن تكون متعددة الأقطاب، في حين أن الإمبراطورية الأطلسية تصرّ على أحادية القطب.
ويضيف: تعتبر الجغرافيا السياسية أن العالم منظم في ثلاث “مناطق”: منطقة روسيا- سيبيريا التي تشكّل محور العالم المأهول، منطقة “ريملاند” الممتدة من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ، ومنطقة الأقاليم والجزر المحيطية أو الخارجية التي تولد “إمبراطوريات البحر”. إن مسيحية هذه “الشعوب المختارة” هي التي تجعلهم ينظرون إلى “المحور” على أنه أرض موعودة وهدف لشهواتهم. في هذا المخطّط، تعتبر منطقة ريملاند، التي تضمّ أوروبا الغربية، والصين، والعالم العربي الإسلامي تارةً من الأنهار الجليدية، وتارة أخرى فريسة. هذه النظرية تجعل من الممكن فهم مصادر التوسعية وتوضيح النزاعات.
ثم يتطرق الكاتب إلى أفول الولايات المتحدة التدريجي، وهي التي تشكّل “إمبراطورية البحر” على الرغم من مساحتها الأرضية، ما جعلها بعيدة عن قلب العالم (قلب الأرض)، ولا تعرف أهوال الحرب. هي تسيطر على البحار والفضاء الإلكتروني، والنظام المالي العالمي عبر الدولار.. منذ عام 1945 أحكمت سيطرتها على المجال الإعلامي بمساعدة لغة الغزو والاجتياح، ودخلت المجال “المسيحي” من خلال الإنجيليين والمعمدانيين وغيرهم من المسيحيين الصهاينة.
ومع ذلك تشهد هذه القوة تراجعاً بشهادة الأرقام، وفي اتباع سياسة التهديد بشكل متزايد وسياسة فرض العقوبات والأعمال السرية، إضافةً إلى الحالة المهدّدة للدولار، وتآكل المصداقية وفقدان السلطة الأخلاقية.. في صميم الدولة العميقة، السلطات الأمريكية مشلولة.
قيامة روسيا
ومن ثم يبلغ الحديث عن قيامة حقيقية شهدتها روسيا في عهد بوتين فيقول: منذ عشرين عاماً، تعيش روسيا مع بوتين قيامة حقيقية، بعدما مسحت الإذلال الذي عانت منه عقب تفكك الاتحاد السوفييتي وعقد يلتسين، وتدين بهذه العودة إلى الملف الذي ساعدها على فرض نفسها، من خلال دعمها لسورية، حيث ساعدت في وقف سفينة “الثورات الغربية” بقيادة الغرب والإسلام المتطرف. حتى لو كان الغربيون مترددين في الاعتراف بذلك، فإن موسكو هي لاعب دولي رئيسي وفعّال.
وعن القوة الصينية الجديدة لفت ريمبو إلى أن الصين باتت في المرتبة الأولى في الاقتصاد العالمي، متقدمةً على الولايات المتحدة في تعادل القوة الشرائية. إنها في صدارة سجلها التجاري والصناعي: فبعد أن كانت ورشة العمل في العالم، أصبحت “المصنع”، في انتظار أن تكون المصرف. قوتها العسكرية تنمو بسرعة، حيث تأتي ميزانيتها الدفاعية في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة، كما أن تطوير البحرية مذهل، ويهدف إلى تأمين بيئتها (بحر الصين)، وإنشاء قدرتها على الإسقاط (البحر الأبيض المتوسط، وحتى القطب الشمالي).
يضاف إلى ذلك التحدي ما أطلقته إيران تحت وطأة العقوبات والذي لم يسبق له مثيل، وهي القطب الثالث في أوراسيا الذي رسّخ نفسه عسكرياً. بعد ذلك يتحدث عما سمّاه “امريكزست” على غرار “بريكست”، أي الخروج عن الهيمنة الأمريكية داخل المعسكر الأطلسي، ويقول: في آسيا ثمة من لديهم حساسية من صفارات الإنذار الروسية أو رائحة طريق الحرير. الهند، العضو في مجموعة البريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون، هي التي تقود الطريق، وقد جذبت إليه: (إندونيسيا، الكوريتان، وآخرون، من بينهم تايلاند وجاراتها الهند والصين).
في القارة القديمة، “الغربيون” يصنعون القانون ويزعمون بأنهم خائفون من وصول الشخص الفظ، لكنهم ليسوا مستائين من مشاغبته، ويلومونه على لغته. فقد أصبح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي واقعاً، هذا الخروج صدم قادة الاتحاد الأوروبي، لكن “الحدث الأوروبي الأكثر أهميةً منذ سقوط جدار برلين” لن يزعزع التوازن. لا أحد مستعد للتملّص من أفق سيئ إزاء القضايا الشائكة، سورية، المواجهة مع إيران (المعاهدة النووية، واغتيال قاسم سليماني، “صفقة القرن”، أردوغان، الإرهاب. فرنسا أيضاً متسلطة أكثر فأكثر ولكن أقل من منافسيها الألمان).
وفيما يتعلق بالشرق الأوسط الكبير المحاصر، أشار ريمبو إلى أن المحافظين الجدد (الإسرائيليين- الأمريكيين) سلّطوا نظرياتهم التدميرية على الشرق الأوسط الكبير، حيث أصدر جورج دبليو بوش وأعوانه مرسوماً بضرورة “دمقرطته”، أي جعله يتوافق مع الكيان الإسرائيلي، وذلك عن طريق تحريك المظاهرات والاحتجاجات ضد “الأنظمة” من خلال دعم المتطرفين حتى لو كانوا إرهابيين، ولن نتذكر هنا نتائج “الربيع العربي” الكارثية.
وعن مشروع “طرق الحرير الجديدة” أضاف الكاتب: تشكّل طرق الحرير بالنسبة للإمبراطورية السماوية، التي ينتشر فيها الأويغور الوهابيون والجهاديون في بعض الأحيان، رداً على “مشروع” بوش. وبحلول عام 2049، الذكرى المئوية لتأسيس الصين الشعبية، ستكون بكين قد نسجت نموذجها متعدّد الأقطار للدول ذات السيادة، المرتبط بمجموعة من الأحزمة والطرق المترابطة. تعتمد رؤية شي جين بينغ على التنسيق الوثيق بين موسكو وبكين وتتضمن التخطيط الاستراتيجي طويل الأمد. سواء أكان الغربيون يحبون ذلك أم لا، فإن “الحقبة الجديدة” القائمة على الأدوار المشتركة لم تعد حلماً مبالغاً فيه، فالاستثمارات المخطّط لها هائلة وستدرّ أرباحاً طائلة. وفي الوقت نفسه لفت إلى أهمية المشروع الروسي لمنطقة أوراسيا الكبرى (الاتحاد الاقتصادي الأوروبي، منظمة شنغهاي للتعاون، بنك الاستثمار الآسيوي)، الذي يشكّل مرآة لطرق الحرير الجديدة. من إيران إلى الحدود المنغولية، يعدّ الشرق الأوسط الكبير الذي يُرى من موسكو جزءاً من “الخارج القريب”، وبالنسبة لروسيا التي يبلغ عدد سكانها المسلمين 20 مليوناً، من الضروري إعادة تشكيل آسيا الوسطى، والأمر متروك لبريكس لإعادة تنظيم العالم.
ولم ينسَ الكاتب التطرق إلى سلاح الحروب الاقتصادية غير المرئية والمدمّرة، الذي استهدف كلاً من فنزويلا، إيران، العراق، سورية، ولبنان، التي أدّت إلى أضرار جسيمة في الاقتصاديات المستهدفة، وانهيار مستوى المعيشة والانزلاق نحو الفقر المدقع جراء ارتفاع الأسعار، وإلى الكوارث الاجتماعية والاقتصادية وتفاقم الأزمات الصحية وتدمير البنى التحتية.
يؤكد الكاتب، أنه في وقت مبكر من عام 2011، طبّقت الولايات المتحدة وأوروبا نظام عقوبات قاسية للغاية ضد الشعب السوري تمثّل في “منع الوصول إلى العديد من الموارد الحيوية”. ومؤخراً أقرّت إدارة ترامب قانون قيصر “المتعلق بحماية المدنيين السوريين” الذي تمّ إدخاله في ميزانية عام 2020، باسم حقوق الإنسان، “عقوبات ضد القطاعات المرتبطة بالدولة وضد الحكومات التي تدعم إعادة الإعمار و”الجيش السوري”.
أخيراً يختم ميشيل ريمبو مقاله بالقول: في ظل تسع سنوات من “الربيع” فإنّ العالم العربي في حالة سيئة، معظم الدول مكسورة ، وتمّ نشر الفوضى وتحريك الفتنة فيها، فيما يراقب “العالم المتحضر” هذا المشهد الذي نظمه. الوصفة موجودة في كل مكان للتطبيع مع “إسرائيل”، وهو شرط لا غنى عنه لإرضاء الأنظمة الخليجية التي تنظر الآن إلى الدولة العبرية بعيون جاريد كوشنر.
لقد تمكّنت سورية، القلب النابض للعالم العربي، من الاستمرار لمدة تسع سنوات في مواجهة التحالف بين الإمبراطورية الإسرائيلية الأطلسية وقوى التكفير والإرهاب. ومنعت موجة “الثورات” وأسقطتها، ولكن الثمن باهظ. سورية في معسكر المقاومة وتتمتّع بحلفاء أقوياء، لكنها يجب أن تواجه أتباع أردوغان العثمانيين الجدد وجرائم الإرهابيين الذين يتنكرون بزي أطفال الجوقة.
ما زال الإرهاب حياً، “القاعدة” في سورية، وتنظيم “داعش” الذي صنعته الولايات المتحدة الأمريكية ينتشر هنا وهناك، فيما تنتشر المجموعات الإرهابية التي لا حصر لها في الشرق الأدنى، وليبيا، والساحل، تحت رعاية الوهابيين السعوديين وجماعة “الإخوان المسلمين” المتمثلين بتركيا ومشيخة قطر.