ثقافةصحيفة البعث

“دفعة القاهرة” الدراما التنويرية

يُعرض على إحدى الفضائيات العربية مسلسل لم يأخذ حقه من المتابعة في الموسم الفائت، وهو “دفعة القاهرة”، تأليف الكاتبة الكويتية “هبا مشاري حمادة”، إخراج البحريني “علي العلي”، وهو دراما اجتماعية تتناول قصص مجموعة من الطالبات والطلاب الكويتيين، أثناء فترة دراستهم الجامعية، في أول بعثة دراسية كويتية إلى القاهرة عام 1956، وما تعرضوا له خلال رحلتهم.
من فكرة العمل تبدو ملامح جودة القصة، لأنه مرآة تعكس بداية انتقال الكويت والخليج عموما، إلى وسائل الإنتاج وطرائق العيش المدنية الحديثة، وهي مرحلة البناء والنهضة الاجتماعية، وفي نفس الوقت يعرض لنا القاهرة في زمن ساحر وجميل، وهو علمانية زمن “عبد الناصر” بالتجاور مع موسيقى وأغاني أم كلثوم وعبد الحليم والسينما المصرية.
في رسالة هذا العمل الدرامية، تتجلى بوضوح روح مرحلة الخمسينيات وانفتاحها في العالم العربي، وذلك في فكرة إيفاد طالبات كويتيات شابات ينتمين لمجتمع تقليدي، في رحلة نحو الدراسة والتحصيل والتفوق، والثقة بأهمية تعليم المرأة لتتقاسم دورها مع الرجل في بناء المستقبل، وهكذا تعي كل شخصية قصتها الدرامية الخاصة بها، بعضهم ستجذبه مغريات القاهرة التي كانت تمثل عالما جميلا لشباب وشابات ذلك الزمن، فيكون الفشل مصيرهم، وبعضهم سوف يعود حاملا شهادته؛ التوازن في عرض الاحتمالين هو نقطة جيدة تُحسب للكاتبة، لأن التركيز على احتمال واحد فقط، سيجعل القصة تبتعد عن واقعيتها وعن أصالتها بالتالي، فمثلما هناك من هو ملتزم بالدراسة، يوجد أيضا من يريد اللهو والاستمتاع بوقته، تماما كما يحدث في أي بيئة جامعية من أي مجتمع، فالطلاب الذين يفشلون سوف يحققون الصراع الدرامي، وعناصر الجاذبية في الحكاية، والذين ينجحون سوف يضبطون الرسالة ويجنبونها فرضية الاستخفاف بالدراسة.
الخط الدرامي المميز للعمل، والذي يمتلك مقولة جيدة ومقنعة، هو في التركيز على العناصر الإنسانية للمجتمع الخليجي بصرف النظر عن النفط، في محاولة لكسر الصورة النمطية الذهنية عن تلك البلدان العربية، فالقصة تبدأ بشخصية أم فقيرة تخيط الثياب للأغنياء، وتطمح بتغيير قدرها، من خلال توفير الاستفادة من المنحة التي هبطت عليهم بطريقة الفرصة الكبيرة، والتي تجعلها ترسل ابنتها “نزهة” فورا، وهي الشخصية التي سنتعرف من خلالها أيضا على الخطوط الدرامية الأخرى للطلاب والطالبات الذاهبين إلى أرض الكنانة، الصراع ليس فقط بين الوافدين الكويتيين ككتلة تواجه مجتمعا مختلفا منفتحا، يمور بالأحزاب السياسية والصراعات الدولية فقط، بل أيضا هو صراع داخل “الدفعة” نفسها، لأنها غير متجانسة طبقيا على الأقل، ولهذا يمكن وصف الصراع الدرامي بكونه متعدد الطبقات، ومنها الاحتكاك ليس فقط بالصورة الوردية التي كانت لدى الطلاب الوافدين، هي موجودة ولكن إلى جانبها أيضا تعقيدات الاتجاهات السياسية والأحزاب المتنافرة والمتضاربة. الجميل والخارج عن المألوف في هذا العمل، هو أنه ليس عن صدمة طلاب عرب بالاختلاف بعد السفر إلى دولة أجنبية، بل في بلد لديه نفس الثقافة العربية، وفوق ذلك ينجح بأن يجعل الأجواء المصرية المألوفة في سينما الخمسينيات والستينيات ظاهرة في المسلسل، ولكن كأرضية أو خلفية لدفعة من الطلاب الكويتيين التعليمية، التي تغدو أقرب إلى مغامرة في استكشاف عالم جديد، كان قريبا في الشاشة كون السينما المصرية كانت معروفة آنذاك، ولكنه الآن يمنح نفسه كواقع حقيقي.
موسيقى الشارة التصويرية من تأليف المايسترو “مصطفى الحلواني”، تحمل في الإيقاع واللحن والأجواء، مزاج حقبة الخمسينيات في مصر، وقد ساهمت بشكل فعّال في كشف الهدف من صناعة هذه الدراما، وهي استحضار النقاط المميزة للسينما المصرية إلى الدراما الخليجية المعاصرة.
يمتاز النص بالانفتاح دائما على كل ما هو غير متوقع، فحيوات الشخصيات تتعقد بسرعة، “ناصر-مهند الحمدي” أحد طلاب الدفعة يشترك في أحدث أفلام الفنانة “زيزينيا-رانيا منصور” ولكن غيرته الشديدة عليها تتسبب له بمشكلة كبيرة مع مخرج الفيلم، فيجد “ناصر” نفسه في السجن، وفي الحلقة الحادية عشرة، تُفتتح الأحداث على خطاب الرئيس المصري الراحل “عبد الناصر” بتأميم قناة السويس، فيجد طلاب الدفعة أنفسهم جزء من هذا القرار وانعكاساته على المجتمع المصري، وهو ما سوف يدفع بشباب الدفعة بالذهاب إلى “بور سعيد” من اجل الوقوف مع الجيش المصري ضد العدوان الثلاثي، وهناك يُصاب “ناصر” و”وعدنان-خالد الشاعر” بسقوط قذيفة، الأخير يفقد ذاكرته وعندما تكتشف زوجته “لولوة-نور خالد الشيخ” بأنها حامل منه وتخبره، فإنها تجده غير مصدق وغير مدرك لما حدث، فيصفعها لأنه لا يعرف أنها متزوجة وأنه هو زوجها، ثم تتعقد الاحداث أكثر، ويطلب من فتيات الدفعة عدم الاحتكاك بها حفاظا على السمعة، النص يتعامل بمهارة مع التصعيد الدرامي في ترميز كثيف وبسيط في آن.
الحل الذكي الذي يناسب أجواء القصة، كان بقرار الطالبات المسافرات وهن في الطائرة بخلع العباءات السوداء، وهي تراث تقليدي، خوفا من التمييز أو صعوبة الاندماج والحركة، في مجتمع لديهن فكرة مسبقة عنه من الراديو والسينما، وهذا الحل سيكون مفيدا على المستوى البصري في جعل الأزياء واحدة ومندمجة بين الشخصيات الوافدة وشخصيات المجتمع المصري.
“دفعة القاهرة” نقلة كبيرة وإنجاز مهم في الدراما التلفزيونية الكويتية والخليجية عموما، يندمج فيه التاريخي مع الشخصي، إلى جانب الرومانسي مع السياسي، في أجواء تضع العمل على مستوى أعمال المغامرة والاستكشاف.
تمّام علي بركات