مخالفات الأسواق تكسب الجولة على عدد الضبوط.. “حماية المستهلك” لم تنجح رسمياً ولم تفلح أهلياً!
لم يعد الانفلات السعري هو الأمارة الوحيدة من أمارات (مرض) الأسواق، التي تتفاوت في كمية الغش وتتفق في نوعيته.. مخالفة مواصفات، عيوب تصنيع، إضرار بالصحة، تلاعب بالأوزان والمقاييس.. هذه بعض مظاهر هذا الغش، الذي بات -مع الأسف- أمراً يفرضه الواقع، ويكرّسه ضعف الرقابة، فالغريب أن أغصانه تنمو وتتطاول، كلما زاد عدد الضبوط التي تنظم بحق المخالفين، مع أنه من المنطقي والطبيعي أن يحدث العكس، كما أن كثرة الضبوط ليست دليل تعافٍ للأسواق، بل مؤشر خَطِر على تزايد ممارسات الغش و”إبداع” طرق جديدة منه، فأين تكمن المشكلة إذن..؟!.
بالمرور على الأسواق..
لا يشي تدني جودة بعض السلع المتداولة في الأسواق المحلية، بأن معدلات تسارع الغش قد تتوقف في المستقبل المنظور، ففي موازاة الجهود الرقابية لحماية المستهلك، يطوّر بعض المنتجين، وربما الباعة، أساليب غش جديدة تبدو أكثر “ابتكاراً”.. متسوّقات كثر شكون ضعف أو انعدام فاعلية مواد التنظيف، تقول إحداهن: إنها اشترت مجموعة من هذه المواد كعرض خاص بقيمة 4000 ليرة سورية، لتجد مادة الكلور مخلوطة بنسبة كبيرة من الماء، ومسحوق الغسيل مخلوطاً بحبيبات لا تذوب في الغسيل أو تترك آثاراً سيئة على الملابس، وهكذا..
ويبدو غش مواد التنظيف أقل خطورة وضرراً من غش المواد الغذائية، التي لم تعد تقتصر على اللبنة المضاف إليها “سبيداج”، وهي مادة كيميائية تستعمل مع معجون الطلاء لإعطائه تماسكاً وجفافاً سريعاً، ولا على المحمّرة المخلوطة بنشارة الخشب ومخلفات معامل الكونسروة، أو البهارات المرتفعة السعر (الزعفران، الزنجبيل، الفلفل،..) المخلوطة بمواد رخيصة، بل تعدّت ذلك كله إلى التلاعب بمدخلات إنتاج المأكولات الجاهزة والوجبات الخفيفة، فمثلاً يباع الكيلوغرام الواحد من أقراص الصفيحة (50-55 قرصاً) بأقل من قيمة كيلوغرام اللحم، ثم ماذا عن تكاليف العجين والمحروقات ومستلزمات التشغيل الأخرى..؟!.
لنكفَّ عن جلد المنتج والتاجر
ما إن تضبط منتجات مغشوشة، حتى يبادر المجتمع ووسائل الإعلام إلى توجيه أصابع الاتهام إلى المنتجين والتجار، لكن الأمر ليس بهذه البساطة، يقول عضو مجلس غرفة تجارة دمشق محمد الحلاق، الذي يشير إلى أن الأزمة خلطت الأوراق على نحو معقد، إذ تنامى عدد المنشآت غير المرخصة، وزاد منتجو “الظل”، مثلما زادت معدلات التهريب، وتدفق السلع بطرق غير شرعية إلى الأسواق المحلية، وبالتالي لا أحد يستطيع أن يتوقع حجم وشكل الغش، الذي قد تقوم به هذه المنشآت البعيدة عن الرقابة، والتي تفتقر لأبسط معايير وضوابط الجودة، ويفاقم المشكلة اعتماد بعض المنتجين على مواد ومدخلات إنتاج مجهولة المصدر، لكن الأمر مختلف تماماً، عند الحديث عن المنشآت المرخصة، التي تعمل في “النور”، وتخضع لشتى أشكال الرقابة.
حماية المستهلك.. أهلياً
يتزايد، إقليمياً وعالمياً، دور جمعيات حماية المستهلك في ضبط الأسواق والحد من التلاعب بالسلع والخدمات، وذلك بالنظر لكونها منظمات أهلية يشارك فيها متطوّعون وقادة رأي ووجهاء. محلياً، بدأت هذه التجربة متأخرة، ولم تمارس دوراً فاعلاً حتى الآن، على الرغم من توسّعها إلى ثماني جمعيات، تتوزع في محافظات دمشق وريفها، والسويداء، واللاذقية، وطرطوس، وحمص، وحلب، وإدلب، والحسكة.
وتؤكد رئيسة جمعية حماية المستهلك في دمشق وريفها الدكتورة سراب عثمان، أن الجمعية تحاول أن تصل إلى المستهلك عن طريق ثقافة الشكوى ومحاولة حلها، وعند التعذر نقلها إلى الجهات المعنية، وذلك انطلاقاً من ضرورة ضبط الأسواق من المستهلك، وتعزيز الاختيار الأنسب عند الشراء، ولاسيما لجهة جودة المنتج والمواصفات والسعر وغيرها.. كما أن ضبط الأسواق عن طريق الجهات الحكومية ضروري لمعاقبة بعض ضعاف النفوس، الذين يخالفون بالمواصفات والسعر، علماً أن الجمعية هي نائب رئيس الاتحاد العربي للمستهلك، وتستفيد من تجارب الدول العربية في نشر التثقيف والترشيد والتوعية.
ويعرف قانون حماية المستهلك رقم 14 لعام 2015 هذا النوع من الجمعيات، بأنها جمعيات تعنى بمصالح المستهلك في المجالات التي يمكن أن يشكل تقديم السلع أو الخدمات فيها خطراً على صحته أو سلامته، أو ضرراً بأمواله ودخله، حيث تقوم بالتنسيق مع الجهات ذات الصلة بممارسة عملها، عبر إرشاد المستهلك، ومتابعة شكواه إلى حين حصوله على حقه، كما تتولى التنسيق مع وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك في مناقشة السياسات المتعلقة بالمستهلكين والأسواق.
ورسمياً..
يبدو أننا ما زلنا بعيدين عن ضبط الأسواق، على الرغم من كل تلك الجهود التي تبذلها مديرية حماية المستهلك في الوزارة، ومن كثرة الضبوط بحق المخالفين، فقلة قليلة من هؤلاء يرتدعون عن ممارسات الغش المختلفة، ما يضع إشارة استفهام كبيرة، يجيب عليها مدير حماية المستهلك في الوزارة الأستاذ علي الخطيب بضعف ثقافة الشكوى لدى المستهلك، وبكثرة وتباعد الفعاليات التجارية، قياساً إلى حجم الكادر الرقابي على الأسواق، وبوجود منشآت وأسواق تعمل في إطار غير شرعي، ما يجعل من الصعب ضبطها وملاحقتها في كثير من الأحيان.
يبقى أن..
تشكّل الرغبة الجامحة في الربح، وغلاء مدخلات الإنتاج أهم رافعتين من روافع الغش الكثيرة، ولأن الإجراءات العقابية والرقابة الرسمية على الأسواق لم تأتيا بنتائج ملموسة، فهل آن الآوان لأن نعمق تجربة الرقابة الأهلية عبر جمعيات تمثل أطياف المجتمع كافة، أسوة بما هو معمول به حول العالم، فمبادئ الأمم المتحدة التوجيهية ضمنت للمستهلك ثمانية حقوق رئيسة هي: السلامة، والحصول على المعلومات، والاختيار، والاستماع إلى آرائه، وإشباع احتياجاته الأساسية، والتعويض، والتوعية، والبيئة الصحية.
أحمد العمار
ournamar@yahoo.com