يحلم باستعادة الحقبة العثمانية.. أردوغان يتدخل في سورية
د. معن منيف سليمان
يسوق أردوغان ذرائع كثيرة تخفي وراءها نيّات عدوانية توسعية وأهداف عثمانية من وهم أحلامه الإمبراطورية، فهو ومنذ أن اندلعت الحرب على سورية سعى إلى استخدام الجماعات الإرهابية المسلّحة كأداة لإسقاط الدولة السورية، وعليه جعل من الأراضي التركية مأوى وممراً لها، كما تورّطت الاستخبارات التركية في دعمها من خلال التغاضي عن قدوم المقاتلين من مختلف مناطق العالم للدخول إلى سورية عبر الأراضي التركية وما ترتب على ذلك من إيصال شحنات أسلحة لها، بل إن التقارير التركية تشير إلى وجود أكثر من ثلاثة آلاف تركي منخرطين في تنظيم “داعش” الإرهابي وحده، حسب صحيفة “مللييت” التركية.
إن أردوغان هو الذي فتح الأراضي التركية أمام هذه الجماعات، بل وصل الأمر إلى حدّ استقبالهم في المطارات التركية، وتحويل الأراضي التركية إلى مقرٍّ وممرٍّ لهم إلى الأراضي السورية، فضلاً عن تأمين المعسكرات والسلاح لهم والتغطية النارية، كما حصل خلال معارك كسب في شمالي سورية، ومن قبل في رأس العين شرقي سورية.
فـأردوغان يعتقد أنه يستخدم هذه الجماعات كأدوات لتحقيق مشروعه هذا، عبر زجّها في معركة إسقاط الدولة السورية، بهدف فتح الطريق أمام مجاميع الإخوان المسلمين للوصول إلى السلطة في دمشق، ما يساعده في التحكم بالسياسة السورية في المستقبل وتحويل سورية إلى ممرٍّ لسياساته تجاه سائر المنطقة العربية، ولكن مع الضربة التي تلقتها سياسة أردوغان بسقوط حكم الإخوان في مصر، وترنّح حكمهم في ليبيا، وخلع عمر البشير في السودان بدأت النهاية لمشروعه العثماني، وقطع الطريق على الأحلام الأردوغانية الدونكيشوتية تجاه المنطقة العربية.
وتحت ذريعة محاربة تنظيم “داعش” الإرهابي وتحجيم أي دور للانفصاليين الأكراد، اتّسعت رقعة النفوذ التركي شمالي سورية على نحو غير مسبوق، منذ أن أطلقت أنقرة عملية درع الفرات في آب 2016، ودخلت دباباتها للأراضي السورية لأول مرة. فقد استعادت تركيا مؤخراً الحقبة العثمانية في سورية (1516- 1918)، ولوّحت بوجود وثائق تؤكّد أحقيتها في بسط سيطرتها على 15 قرية بمحافظة إدلب المتاخمة للحدود التركية، ومن أجل تحقيق هذا الغرض دفعت بتعزيزات عسكرية لإنشاء نقاط مراقبة على الطريق الدولي الواصل بين إدلب والحدود السورية مع تركيا، واستندت تركيا في السابق على وثائق عثمانية مشابهة لتسويغ سيطرتها على مدينتي جرابلس ومنبج في محافظة حلب، كما تذرّعت بوجود مقابر تعود لقادة عثمانيين في مناطق أخرى شمالي سورية، لبسط نفوذها عليها. ومن إدلب إلى عفرين في حلب، لم تتوقف الأطماع التركية في السيطرة على المزيد من الأراضي السورية، بذريعة مواجهة الجماعات الكردية، التي تعدّها أنقرة امتداداً لحزب العمال الكردستاني المحظور في تركيا.
لقد كشفت معارك رأس العين وتل أبيض بين المقاتلين الأكراد من جهة وتنظيمي “داعش” و”جبهة النصرة” من جهة أخرى عن تورّط تركي مباشر في هذه المعارك، حيث قدمت العديد من المجموعات المسلّحة من داخل الأراضي التركية وسط قصف مدفعي تركي للقوات الكردية التي أسرت أشخاصاً كانوا يحملون الجنسية التركية ويحاربون في صفوف تنظيمي “النصرة” و”داعش” الإرهابيين.
وتقوم رؤية أردوغان اليوم على اقتناص مساحة معيَّنة من الشمال السوري، وتثبيتها كأمرٍ واقع في الحلّ السياسيّ فيما بعد، على قاعدة أنها المنطقة المرشَّحة لاستقبال “المعارضين” العائدين إلى سورية بعد اكتمال الحلّ السياسي، وهو يريده حلاً مؤقتاً، أي أن يحمل بذور تفجّره ذاتياً، ما يفسح مجالاً للتدخل التركي وفرض السيطرة المباشرة.
وفضلاً عن ذلك، استمرّ أردوغان في دعم التنظيمات الإرهابية في إدلب لمواجهة تقدّم الجيش العربي السوري فيها، وصولاً إلى الاصطدام المباشر معه والتضحية بأرواح الجنود الأتراك، ليكمل مشروعه التوسعي حتى النهاية، على الرغم من انسداد الأفق الاستراتيجي لأيِّ انتصار يمكن أن يتحقَّق فيها.
ولم يقتصر التدخل التركي في سورية على قضم الأراضي، بل امتدت السيطرة التركية لتشمل الكتب المدرسية، ولافتات الطرق، والمؤسّسات العامة التي باتت تعجّ باللغة التركية، فعلى جدار مبنى المجلس المحلي بمدينة أعزاز في حلب تظهر عبارة مكتوبة باللغتين العربية والتركية “التآخي ليس له حدود”، وإلى جانبها رسم للعلم التركي وراية لـ”المعارضة السورية”.
وإلى جانب الاحتلال العسكري، وجدت المؤسسات الحكومية والشركات الخاصة التركية خلال الأعوام الماضية، موطئ قدم لها في هذه المنطقة التي دُعيت بالآمنة، شمالي سورية، وأنشأت أنقرة على سبيل المثال شبكة كهرباء في مدينة جرابلس، حيث عُلقت صورة للرئيس التركي أردوغان على جدار في مستشفاها الرئيسي المدعوم من أنقرة. كما تنتشر في سوق أعزاز محال تبيع البضائع التركية من حلويات وثياب ومواد تنظيف ومشروبات غازية ومواد غذائية كالسمنة والسكر والزيت. ويحصل بعض السكان على البضائع عبر “المديرية العامة للبريد التركية” الرسمية، التي فتحت مكتباً لها في مدينة أعزاز يعمل فيه موظفون أتراك وسوريون ويُسمح في مكتب البريد باستخدام الليرة التركية فقط.
في الواقع، إن أردوغان بسياسته هذه لتحقيق أحلامه الإمبراطورية لا يغامر بدفع المنطقة إلى حروب مركبة ومتداخلة ومفتوحة فحسب، بل يغامر أيضاً بمستقبل تركيا نفسها وربما لن نحتاج إلى وقت طويل لكي تظهر مخاطر نار الجماعات المتشدّدة التي أوقدها أردوغان في الداخل التركي نفسه. فالثابت أن هذه الجماعات لا تعترف بالحدود الجغرافية وديدنها هو استخدام القوة انطلاقاً من إيديولوجيتها الإجرامية وإقصاء الآخر.
إنَّ مقاومة التدخّل التركي في الشمال السوري هو حق سيادي للدولة السورية، لا يمكن تبديله أو التغاضي عنه، وهو ما يُحقّقه الجيش العربي السوري وحلفاؤه كل يوم، ويحتفل به المواطنون السوريون الذين يُهلّلون لفتح طريق حلب دمشق بعد تحرير مدينة سراقب ودخول البلاد في مسارها النهائي لتحرير إدلب. إنها مرحلة جديدة بكلّ المقاييس عنوانها الانتصار والتحرير، على الرغم من كلّ فقاعات أردوغان الصوتية ومن يقف خلفه من دول الغرب الاستعماري.