عيشة من طرف واحد!؟
د. نهلة عيسى
السيد “كورونا” صار جارنا, وهي جيرة غير موصى, ولا منصوح بها عالمياً, ولأنني بطبعي بوهيمية, وأشبه بحفنة رمل هاربة من بين الأصابع المريضة بحب التملك, أهيم هذه الأيام على وجهي في أودية الوطن, وأنبش الأرض والوجوه بأظافري بحثاًعن معرفة, وعن يقين يمكن الارتماء في حضنه, ولكن هيماني لم يقدني إلا إلى بحر من الكوابيس والأقنعة, وآلهة من تمر, وأشياء تبدو جميلة, ولكنها هشة سريعة العطب, في ظلال الموت المتربص بنا منذ سنين, بلا حق في تمييز أو استئناف!.
أنا بوهيمية, ولكن الألم عندي ليس هواية, ولا مكياجاً مسرحياً أمثل به دور الضحية, فأنا رغم كل الوجع, والحضور المخيف للسيد كورونا, مازلت اشتعل جنوناً ورفضاً وغضباً وحلماً, ولكن ألمي الفائض عن الحاجة, والرافض ابتلاع الأقراص المنومة, كان نتيجة محتومة لتسع سنوات اعتقلتنا فيها الحرب, واجبرتنا على التفتيش الدائم عن حقيقة ما, يقين ما, منارة ما, نتمسك بها خشبة خلاص من بشاعة وكآبة الأشياء حولنا, ومن عبثية أن حياتنا أشبه بالعيش من طرف واحد!؟.
أنا بوهيمية, والحرب التي تعتقلنا, أنهت زمن الطقوس, الياسمين, والموسيقى, والكتاب, والليل, وذاك التوق الغامض إلى أول فراشة طاردها القلب, وأول نجمة ناجتها العين, وأول أمنية احترقت, والحلم الذي نخاف أن يتحقق, لأننا نريده أن يظل حلماً كي لا نفقده ويستحيل خيبة, ولذلك والأصفاد في يدنا رسمنا لأنفسنا يقيناً, يتيح للحب أن يستمر بالتدفق شلال سخرية على كل الأشياء, الحرب, وكورونا, وحتى سخريتنا من كورونا, لأننا سنموت إن توقفنا عن السخرية, وهذا ماتريده الحرب, ولم يكن ممكناً أن نسمح للحرب أن تريد ما لا نريد.
وكان يقيننا المرسوم “سخرية”, هو من حطم الأصفاد وأتاح لنا الهرب من قبضة الحرب ونحن في الخط الأول للحرب, لأنه كان الرد على زواريب الطائفية وأزقة المذهبية التي حاول القتلة اقتيادنا إليها, وكان الشمس التي حاربنا بها أعداء الشمس, لنؤكد أن سلاح جيشنا هو جواب لقسم بحماية الوطن في البر والبحر والجو والرب شهيد, واستجابة لنداء راية النجمتين, وترديداً لصدى صوت امرأة من ألف عام نادت: وامعتصماه, فرددت الجبال الصدى بعد ألف عام, واستجاب له الرجال!.
أنا بوهيمية, ولكن يقيننا المرسوم “جيشاً” أصبح مقصد مشاوير فخري لرد أقل القليل من الجميل لرجال يذهبون إلى الموت, كي يخرج الموت من بلادنا, وأصبحت تلك المشاوير أغنيتي الفيروزية في صباح يتوسل الدفء من القلب, وأصبحت الضوء الذي يغسل عن العين رماد الخيبات, ويغلفها بحرير الأمل, ويدفعني حين ألتقيه لنسيان الحرب, ولانتظار موعد مع الفرح قريب, للحديث عن النجوم والأزهار, والأطفال, وعن السيد “كورونا” الذي وقف على حدودنا متهيباً الدخول, وأنتقم لنا وحاصر كل من حاصرونا, وجعل الجميع يعرفون ماذا يعني أن تتحول الأوطان إلى سجون!؟.
أنا بوهيمية, ولكن يقيني جعلني بنت وأخت وأم وصديقة كل الشهداء, الذين لم يعودوا أصدقاء أحد, رغم أن شهادتهم دليل على أنهم أصدقاء كل أحد فينا, والذين لن يقرأ أحد منا قصة حياتهم القصيرة الجليلة, رغم أنهم ميزان الوطن, والبداهة النقية وسط غابة من كلمات متقاطعة مسمومة, بات فيها فعل “أعارض” وبراءة الأطفال في العينين, مرادف لفعل “أذبح, أنهب, أبيع”!!.
أنا بوهيمية, ولكن يقيني صيرني رفيقة الجنود في الجبهات, هؤلاء الذين رغم كل العناء, ومقارعة الموت كل لحظة, هم بشاشة وجه الوطن, وألفة تصطاد النحل والضباع الشرسة, وأرجو وأدعو أن تكون مناعة ضد المرض, وهم موسوعة البلاد: أسماء السوريين, أسماء النبات, أسماء الأنهار, الأشجار, وعنوان كل حجر, ومواضع جذور الصبار, وحدود البحار, وحيث علي لصيق عمر, ومحمد بشارة يسوع, وحيث لا أحد يمن بالصبر على الوطن, وحيث هؤلاء الرجال هم ربما أكثرنا عرضة لزيارة مفاجئة من السيد كورونا, وأظن آن الأوان لنخوض نحن الحرب ضد كورونا لكي نثقل جبهاتنا بخوض حربين.