نظرة في البنية التحتية للإرهاب الدولي: شركة “سادات” التركية أنموذجاً
د. إبراهيم علوش
خلال معارك شمال غرب سورية بداية الشهر الجاري، برز فرقٌ كبيرٌ في الأرقام الواردة عن خسائر الجيش التركي بين ما اعترفت فيه تركيا رسمياً (59 قتيلاً)، وبين ما نقلته المصادر الميدانية المقربة من سورية وحلفائها (مئات القتلى والجرحى الأتراك)، لا سيما حزب الله الذي أسند تقاريره بالصور والفيديوهات، وبسبب المصداقية العالية تاريخياً للمصادر الصديقة، أصبح هناك سؤالٌ منطقيٌ لا بد من طرحه: كيف يمكن لنظام أردوغان أن يخفي عن شعبه حقيقة وجود مئات القتلى والجرحى الأتراك؟ لهذا توجهت للإعلامي المعروف حسين مرتضى، الذي يظل قريباً كعادته من قلب الميدان، لسؤاله عن تفسيره لمثل هذا التناقض الكبير في التقارير الإعلامية عن عدد قتلى الأتراك في معارك شمال غرب سورية.
أجابني الصديق حسين مرتضى بأن كثيراً ممن قتلوا في المعارك في الجانب التركي كانوا يلبسون بدلات الجيش التركي، ويستخدمون آلياته ومدرعاته وأسلحته، وكانوا قد تلقوا تدريبهم على يده، لكنهم ليسوا في الواقع من الجيش التركي. سألته: يعني هم عرب؟ فرد قائلاً: إنهم عرب وأتراك وغيرهم، لكنهم ليسوا من العصابات التكفيرية المسلحة، ولا من الجيش التركي، فابحث عنهم تجدهم.
غصت بالفعل في عملية بحث عن “طرف ثالث” في معركة شمال غرب سورية، هو جزء من الأدوات التركية فعلياً، من خارج العصابات الإرهابية، ومن خارج الجيش التركي، وكان ما وجدته مذهلاً، لا يقل عن بنية تحتية إقليمية للإرهاب وزعزعة استقرار الدول العربية، تعمل بحرية عبر الحدود فعلياً بلا حسيبٍ أو رقيبٍ، وعنوانها الرسمي هو شركة “سادات” التركية، التي تزعم أن عشر دول مسلمة تتعاقد معها.
تقول نسخة محفوظة من صفحة الشركة على الإنترنت إن “شركة صادات هي الأولى والوحيدة التي توفر الخدمات الاستشارية والتدريبات العسكرية في مجال الدفاع العالمي بتركيا”، ومن يرغب بالبحث عن الشركة، وأن يتحقق من صحة المعلومات الواردة في هذه المقالة عنها، فإن اسمها يُكتب بالعربية “سادات” تارةً، و”صادات” طوراً، و”صدات” حيناً، وSADAT بالتركية. وهي شركة أسسها 23 ضابطاً تركياً متقاعداً منذ عام 2012 بحسب صفحة الشركة التي تقول أيضاً تحت عنوان “مهمتنا” إنها مسجلة كشركة مساهمة، “تقدم خدماتها في تنظيم وتنسيق القوات المسلحة والأمنية الداخلية والاستشارية في الخبرة الاستراتيجية في المجالات الامنية الداخلية والدفاعية..”، وفي “تكوين الاوساط الدفاعية والتعاون في الصناعة الدفاعية واحتلال العالم الإسلامي مكانته التي تستحقها بين الدول العظمى..”، أي أن مجال عملها لا يقتصر على تركيا، بل يتعداه إلى خارجها، وخارجها الإسلامي تحديداً، سواء كانت دولٌ أم مجتمعاتٌ مسلمة.
تحت عنوان “الهيكل التنظيمي” للشركة نجد مديريات متعددة تتبع لثلاثة أقسام: خارجي وداخلي وإداري، وتلحق بالقسم الإداري مديريات شؤون عاملين ومالية وتكنولوجيا معلومات واتصالات، وتلحق بكل من القسمين الداخلي والخارجي مديريتا عمليات وتدريب و”مديرية التموين والمنفجرة”، ولعلهم يقصدون بذلك التعبير العربي المكسّر “مديرية التموين والمتفجرات”!
العبرة هنا أن لدينا شركة خاصة مساهمة، مسجلة في تركيا منذ ثماني سنوات، تمارس نشاطاً عسكرياً خارج إطار الجيش التركي، داخل تركيا وخارجها، وأنها تمارس ذلك النشاط، في مناطق النزاع، من دون إذن الدول المعنية، كنشاط تجاري، وهي تفتخر علناً بأنها الشركة التركية الأولى والوحيدة التي تمارسه، أي أنها تمتلك احتكاراً في هذا المضمار يجعل من منافسيها الدوليين، مثل شركة بلاكووتر الأمريكية، التي أصبح اسمها “أكاديمي” عام 2011، يخضرّون من الحسد.
ما يتوفر من معلومات حول الشركة على الشبكة العنكبوتية يدلل على أنها تأسست كذراع عسكرية خاصة لحزب “العدالة والتنمية”، وبتمويلٍ منه، بالإضافة إلى التمويل القَطَري وتمويل جماعات “الإخوان المسلمين” حول العالم، غير عوائد الشركة من زبائنها طبعاً، وقد برز اسم الشركة مؤخراً في ليبيا حيث باتت حكومة السراج “المعترف بها دولياً”، كما تزعم، أحد أبرز المستفيدين من خدمات شركة “سادات” التركية للمرتزقة الدوليين، وقد تبين أن الشركة تتلقى عمولة ألف دولار عن كل “رأس” إرهابي ترسله من سورية إلى ليبيا، وهذا يعني ستة آلاف إرهابي ضرب ألف دولار تساوي ستة ملايين دولار عن الرؤوس المسلمة حتى الآن، ناهيك عن الأسلحة والمعدات وتأمين اللوجستيات والتدريب والبدلات والأحذية العسكرية قبل ذلك والنقل إلى ليبيا، إلخ.. مما لا شك في أنه عملية مربحة.. ودموية جداً، ونشير إلى أن شركة “سادات” تدير العملية العسكرية في ليبيا، بالاشتراك مع الجيش التركي، وهي المعنية بالسيطرة على المنشآت عموماً، والنفطية منها خصوصاً.
فالشركة لديها بنية عسكرية خاصة بها، فضلاً عن الدور الذي تلعبه في تشكيل وإدارة الجماعات الإرهابية المختلفة عبر الحدود، وأساس الشركة أيديولوجي، بالإضافة إلى بعدها التجاري، إذ يوجد في مجلس إدارتها إسلامويون متطرفون، أما رئيسها ومؤسسها الجنرال التركي المتقاعد “عدنان تانري فردي”، فهو من اللون القطُبي ذاته (قطبي من “سيد قطب”)، قدمٌ عند جماعة “الإخوان المسلمين” وأخرى عند الجماعات الإسلاموية المتطرفة في تركيا والعالم، وقد عينه أردوغان كبير مستشاريه بعد شهر من الانقلاب الفاشل في صيف عام 2016، لدور شركته في قمع ذلك الانقلاب، وكان الجنرال “فردي” قبل ذلك عضواً أساسياً في هيئة “السياسات الأمنية والخارجية” التابعة للرئاسة التركية.
يُستشف من مصادر وكتابات جادة متنوعة على الشبكة العنكبوتية أن المادة الأساسية لجيش شركة “سادات” يمر من بوابة “جمعية الغرف العثمانية”، وهي فروع الشباب التي أسسها “حزب العدالة والتنمية” الإخواني وألحقها بآلاف المساجد في تركيا لاستقطاب الشباب الذين يذهبون بعدها إلى مخيمات تقيمها شركة “سادات”، فمنهم من يتحول إلى “أمن داخلي” موازي في تركيا، تحت عنوان “حراس الليل”، ومنهم من يستخدم للعمليات الخارجية التي تقوم بها شركة “سادات”.
يستشف أيضاً من بعض تلك المصادر أن تلك التجربة، أي تجربة “فروع الشباب” التابعة لـ “جمعية الغرف العثمانية”، بدأ نشرها قبل بضع سنوات خارج تركيا في المناطق الناطقة بالتركية في دول الاتحاد السوفياتي السابق، وفي دول أخرى عديدة عربية وغير عربية، عبر جماعات “الإخوان المسلمين” أو الجمعيات التابعة لهم، فإذا كان مثل هذا الكلام صحيحاً، وهو يحتاج بالضرورة لتحقيقات صحفية وأمنية أوسع وأعمق للتأكد منه، فإن ذلك يعني خلق جيش خاص تحت قيادة شركة “سادات” يستطيع نظام أردوغان استخدامه خارج تركيا، وتشير المعلومات المتقاطعة إلى أن ذلك تم بالفعل في العراق وسورية وليبيا، وربما في أمكنة أخرى، ولذلك فإن قتلى هذا الجيش في شمال غرب سورية لا يعدون “رسمياً” قتلى للجيش التركي أو حتى للجماعات الإرهابية، ولو كانوا أتراك الجنسية أو ناطقين بالتركية من آسيا الوسطى أو غيرها.
الشيء المؤكد هو أن أردوغان أوكل لشركة “سادات” مهمة إعادة هيكلة الجيش التركي بعد الانقلاب في صيف عام 2016، ومن هنا تصريح الشركة على موقعها بأنها تشتغل بـ”تنظيم وتنسيق القوات المسلحة”، كما ورد أعلاه، وقد قامت الشركة بالفعل بتقليص حجم الجيش التركي بحوالي مئتي ألف جندي وضابط تم تسريحهم، والطريف أن الشركة سمح لها بموجب مرسوم رئاسي عام 2016 بتجنيد العسكريين وطلاب الكليات العسكرية مباشرة في صفوفها، وهو ما يعني فعلياً إنشاء بنية موازية للجيش والشرطة والمخابرات معفية من المساءلة، وهدفها تثبيت حكم نظام الإخوان داخلياً، وهي بنية لا شك في أنها باتت أحد أهم أسباب المعارضة داخل تركيا للنظام الإخواني.
الأمر الآخر هو أن شركة “سادات” باتت ذراعاً عسكرية ضاربة في العمق العربي بالذات للتنظيم الدولي لجماعة “الإخوان المسلمين”، الذي يزعم أن العلاقة بين فروعه في الدول العربية هي علاقة “استشارية” فحسب لا تقوم على ارتباط تنظيمي، وقد أشرفت شركة “سادات”، بحسب اعترافات رئيسها “عدنان تانري فردي”، في مقابلة أجراها مع موقع “خبر ترك” في مستهل العام الجاري، على تشكيل ما يسمى “الجيش السوري الحر”، كذراعٍ عسكريةٍ مركزية لجماعة “الإخوان المسلمين” في سورية، والغريب أنه قال في المقابلة ذاتها إن نشاط الشركة بدأ في ليبيا منذ بدء “الثورة”… وهذا يعني عام 2011، أي قبل الإعلان عن الشركة رسمياً في تركيا عام 2012، وهو ما يؤكد على وجود تلك البنية التنظيمية قبل سنواتٍ من تأسيسها.
يقول بعض الكتاب الأتراك أن الشركة تم تأسيسها كردٍ تركيٍ وإخواني على “الحرس الثوري الإيراني”، لكن ما لا شك فيه هو أنها باتت تلعب دوراً متزايداً في زعزعة استقرار الدول العربية، وأن ملعبها الأساسي هو الدول العربية، وأنها تمثل تهديداً متزايداً للأمن القومي العربي برمته، لا لسورية أو ليبيا أو العراق فحسب، غير أنها، بالخصائص المحددة التي تتخذها، تمثل أحد منتجات العولمة، فهي: أ – أنموذج لخصخصة العمل العسكري، ب – العمل عبر الحدود، ج – تشكيل بنية لها أذرع بعضها من ملاك الشركة ذاتها وبعضها متعاقد من الخارج، مثل الجماعات الإرهابية التي تدعمها، د – تمزج شراء الخدمات العسكرية وبيعها بالعملة الصعبة مع منظومة حوافز أيديولوجية متطرفة، وهي في النقطة الأخيرة لا تختلف عن شركة “بلاكووتر” الأمريكية كثيراً إذ استخدمت الأخيرة ميليشيات مسيحية متصهينة في معركة الفالوجة في العراق عام 2004، وهي تحظى، فوق كل ذلك، بغطاء دولة إقليمية مثل تركيا يصعب التصديق أن الغرب ساكتٌ عن نشاطات شركة “سادات” من دون موافقته عليها كمتعاقد عسكري من الباطن العربي والإسلامي.