رأيتُ حلب
د. نضال الصالح
أمطار ناعمة تضاحك ذؤابات الأشجار وأسطح البيوت والبنايات، وتسّاقطُ بحنوّ فوق الأرصفة وفي الشوارع مبدعةً إيقاعاً يشبه الترتيل أو الترنيم في صلاة، وكنتُ أرهف روحي لصوت يتهاطل من سماء لا تُرى: يا لبلاغة الطبيعة وهي تمشط شعر السندريلا حلب!
فتحتِ المدينة ذراعيها لي، أخذتني إلى صدرها، فأسندتُ رأسي إليه محشرجاً بتسع سنوات من العماء الذي تقنّعَ بشعارات تنتمي إلى الضوء زيفاً، تسع سنوات أنهكتِ البشر والشجر والحجر، ولم يسلم أحدٌ من هذيانها الضروس وحديثها الإفك وشهواتها المحمومة إلى الدم والدمار والخراب، وتداعى تحت باطلها نصف المدينة القديمة أو يكاد، وتهدّم بفعل هذرها كثير من الأوابد، من الجامع الأموي إلى مدرسة السلطانية فمدرسة الحلوية وخان الشونة وأسواق المدينة وكنيسة الشيباني.. وكنتُ أبكي بصوت لا يسمعه سواي، وكانت حلب تهدهدني بآي من الذكر الحكيم مرة، ومن الكتاب المقدّس مرة، حتى يهدأ رعش روحي، ثمّ أبلغ مقام اليقين بقيامتها إلى الحياة كما نهضت غير مرة عبر تاريخها المثخن بالغزاة والطامعين والجاحدين بالضوء والحياة. رأيتُ حلب، رأيتُ قيامتها إلى الحياة، يقينها بالحياة التي تليق بها. رأيتُ النظافة الباهرة في معظم الساحات والأحياء والشوارع، وحركة الإعمار وإعادة الإعمار النشطة في غير مكان، وغياب الحواجز الاسمنتية التي كانت تقضم الكثير من بهائها، ووفرة مسطحات الطاقة الشمسية التي تمنح ليلها فتنة على فتنة، وقبل ما سبق وبعده ذلك الإيقاع اليومي الخالب الذي يستعيد إليها روحها التي كانت قبل أن تنهشها مخالب الظلام.
رأيتُ حلب، وقبل أن أراها رأيت الرجال الذين يحرسون الطريق الدولي إليها من دمشق، وعلى شاطئيه تتثنى شقائق النعمان ناهضة للحال من دماء الرجال الذين طهروه من رجس الظلام، ورأيتُ، أنا الذي رأى، كيف يبزغ الربيع في السهول، وتتورّد وجنات الجبال، وتتمايل الأشجار على إيقاع الطبيعة وهي تطوي تحت كلّ حجر فيها سِفر حكاية أو ملحمة أو أسطورة عن رجال استثناء في تاريخ الخليقة، رجال تسابقوا إلى الشهادة كي تكون لسورية الحياة.
رأيتُ حلب، عروساً تتهيأ للزفاف بعد تسع سنوات من محاولات الظلام تصفيده يديها بأغلال الموت في شبهة حياة، وحياة في شبهة موت، رأيتها وهي تنضو عن جسدها الدماء التي خلّفها الإرهاب عليه بينما كان يستذئب في انتهاك طهرها. رأيتها مزهوة بفتنتها البكر من دون أصباغ، بعينيها السحر الأبهى من عيني فاتنة علي بن الجهم، بجوريّ خدّيها الذي كأنّه، كأنّني كنتُ أنا الذي عنى الشاعر أبو ماضي في قوله: فضرّجَ خدّيها احمرارٌ كأنّما/ تصاعدَ من قلبي إلى خدّها الوجْدُ.
رأيتُ حلب، ولم أكد أرى، حتى عبقت روحي بعطر الحياة، استعدتني طفلاً يشاغب خندق القلعة وسفحها، يرتّلُ ما كان جدّه الصنوبريّ أنشدَ: أيُّ حُسْنٍ ما حوتْه/ حلبٌ أو ما حواها! ثمّ يصغي إلى رفيف تسبيح في سماء ما بعدها سماء: بضعةٌ من روح الله غافلتِ السماء، ثمّ حطّتْ على الأرض، فكانت حلب.