اتفاق المصالحة بين حركة “طالبان” والولايات المتحدة الأمريكية
ريا خوري
بدأت الحرب الأمريكية في أفغانستان منذ العام 2001 وحتى 2014، وسُميت حركياً بـ(عملية الحرية الباقية)، أو (الحرب الانكليزية الأفغانية الرابعة). ومنذ العام 2015 أُطلق على تلك الحرب اسم (عملية حارس الحرية) عقب غزو الولايات المتحدة الأمريكية لأفغانستان في 7 تشرين الأول عام 2001 عندما تمكَّنت مع حلفائها من تنحية حركة (طالبان) عن السلطة بهدف حرمان تنظيم (القاعدة) من اتخاذ مقر عملياتي آمن في أفغانستان، عقب تحقيق الأهداف الأولية المرسومة، وأطلقت جميع دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) وبعض الدول الأخرى، حيث وصلت إلى أربعين دولة، موافقتها لغزو أفغانستان دون تردّد. وبحلول شهر كانون الأول عام 2001 انهزمت حركة (طالبان) وحليفها تنظيم (القاعدة) الإرهابي، وفي مؤتمر بون تمّ انتخاب حامد كرزاي رئيساً للإدارة الأفغانية المؤقتة، بدعم كبير من كل دول شمال الأطلسي، وكانت الولايات المتحدة من بين القوات المشاركة هي المسؤولة المباشرة بعد انهزام طالبان في بداية الغزو، ثم تمكَّن قائدها (ملا عمر) من تنظيمها، وشنَّ في العام 2003 موجة تمرّد على الحكومة الأفغانية والولايات المتحدة الأمريكية.
في الوقت الحالي حاول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التوصل إلى سلام مع حركة (طالبان)، لأنه ينوي إصدار قرار بانسحاب القوات الأمريكية منها، وذلك في إطار خطته الإستراتيجية الخارجية القاضية بالانسحاب والتخلّص من الأزمات الدولية المعيقة للسياسة الأمريكية بعد أن كان منهجها الاستراتيجي التدخل في شؤون الدول والممالك، وحتى التنظيمات ومنظمات المجتمع المدني في العالم، وذلك بعد الانتهاء من الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي الأسبق. هذا التوجّه ازداد بشكلٍ كبيرٍ بعد أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001 والتي تبنَّت مهمة القضاء على الإرهاب، ومجابهة كل دول العالم. وظهر شعار (من ليس معنا فهو ضدنا)، وكانت أفغانستان من بين أهم الأهداف. الواضح تماماً ومن خلال متابعتنا لمجريات الأحداث أنَّ فرص التوصل إلى اتفاق دائم قد تذوب وتتلاشى وسط الفوضى السياسية العارمة التي قد تجتاح أفغانستان ونظامها السياسي بعد فوز الرئيس أشرف غني بفترة ولاية ثانية، وأشرف غني هذا مطعون في نزاهته من قِبَل منافسه عبد الله عبد الله وهو الرئيس التنفيذي في الحكومة الأفغانية. وهكذا سارت الأمور بضبابية حين أعلنت اللجنة المستقلة للانتخابات الرئاسية في أفغانستان بتاريخ 8 شباط 2020، أنَّ أشرف غني هو الفائز في الانتخابات الرئاسية التي تمّت بتاريخ 28 أيلول العام الماضي 2019، وحقَّق فوزاً ساحقاً على منافسه عبد الله عبد الله، حيث حصل عبد الله عبد الله على نسبة 39،5% من الأصوات، بينما حصل الرئيس أشرف غني على 50،6%. وعلى خلفية هذه النتائج تأجَّحت الصراعات بين الطرفين، وأعلن عبد الله عبد الله اعتراضه على النتائج، وتعزّز ذلك بإعلان فريقه الانتخابي بأنّه الفائز وليس أشرف غني، وقام بإعلان تشكيلة لحكومة موازية لحكومة أشرف غني. وهذه الأزمة كانت قد تكرَّرت في السابق، حيث خسر عبد الله عبد الله أمام أشرف غني في الانتخابات الرئاسية عام 2014، وشكَّك في نتائج الانتخابات، مما أوجد انقساماً سياسياً حاداً في أفغانستان لم ينتهِ إلّا بعد أن تدخّلت الولايات المتحدة، وأجبرت الفريقين على توقيع اتفاق بتشارك السلطة، وهذا أمرٌ غير مسبوق، بحيث يصبح أشرف غني رئيساً للدولة، ويصبح عبد الله عبد الله الرئيس التنفيذي.
بعد تدخّل الولايات المتحدة الأمريكية المباشر، تمّ الاتفاق مع حركة (طالبان)، وهذا الاتفاق حسب رأي الأطراف المشاركة فيه يمهِّد لإحلال السلام المنشود، وإنهاء أطول حرب أمريكية في العصر الحديث. ونصَّ الاتفاق على الحدّ من العنف لاختبار إرادة الطرفين في وقف إطلاق النار بين الحكومة الأفغانية وحركة (طالبان)، فإذا حقَّق هذا الاتفاق النجاح، ستقوم الولايات المتحدة بتوقيع اتفاق آخر مع حركة (طالبان) يتمّ بموجبه تخفيض تدريجي للجيش الأمريكي البالغ عدده أكثر من اثني عشر ألف جندي، وهذا سيؤدي إلى بدء مفاوضات رسمية جدية بين حركة (طالبان) والحكومة الأفغانية بشأن التسوية السياسية المعقَّدة. لكن اتفاق وقف إطلاق النار إذا لم يتحقق يكون بسبب تأثره بالأزمات السياسية الحادة التي جرت في وقتٍ سابق، وهي معوقات قد تتجدَّد مرَّات عدّة. ومن أولى تلك الأزمات اعتراض الحكومة على الاتفاق، ففي العام الماضي 2019 تمكَّنت الولايات المتحدة وحركة (طالبان) من الاقتراب من عقد اتفاق سلام كان من شأنه أن يسحب القوات الأمريكية من أفغانستان، وكان على حركة (طالبان) أن تتخلّى بشكل علني عن دعمها القوي للجماعات الإرهابية، ودخول مشاورات ومباحثات مع الحكومة الأفغانية بخصوص تقاسم السلطة، لكن الحكومة الأفغانية اعترضت على استبعادها بشكلٍ لافتٍ من المناقشات والمباحثات المتداولة، وأرادت العمل الفوري على وقف إطلاق النار بشكلٍ مستمرٍ وبشروط أكثر صرامةً، إضافةً إلى عدم وفاء بعض عناصر حركة (طالبان) بالمبادئ الأولية التي تمّ الاتفاق بشأنها، وهو ما طرح سؤالاً مهماً حول إمكانية سيطرة قيادة التنظيم على المستويات الأدنى من عناصره فيه، وخاصة بعد قيام بعض المقاتلين بهجوم عنيف في العاصمة الأفغانية كابول في شهر أيلول عام 2019 تسبَّب بمقتل ضابط أمريكي، وهو ما دفع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لوقف مباحثات السلام. أما البعض الآخر فقد رأى أنَّ الهجوم المسلَّح هو محاولة من حركة (طالبان) لكسب النفوذ والقوة، لكن هذا الهجوم يُنذر باحتمالية عدم التزام حركة (طالبان) بالاتفاق مرة ثانية، خاصةً وأنَّ الحركة باتت أقوى عسكرياً من أيِّ وقتٍ آخر. وهناك أزمة ثانية تلوح في الأفق بعد فوز أشرف غني بولايةٍ ثانية، ليس فقط من قِبَل عبد الله عبد الله، إنما أيضاً من قِبَل حركة (طالبان)، هذه التسوية كان تأثيرها على الحركة في أمرين، الأوَّل هو التباين في المواقف والخلاف الواضح بين أشرف غني وعبد الله عبد الله حول خطة إستراتيجية للحوارات مع الحركة، والتسوية السياسية، فقد عمل أشرف غني على السعي للتفاوض مع حركة (طالبان) مقابل نزع سلاح الحركة، وهذا ما سيمنحها المساعدة التي تحتاجها لإعادة الاندماج في المجتمع مع تشارك أفراده في جهود البناء والتنمية، وربما تفوِّض السلطة بتشكيل حزب سياسي يعمل على ضبط العملية السياسية في البلاد، والتنافس بقوة في الانتخابات، حيث يرفض أشرف غني فكرة أنَّ حركة (طالبان) يمكنها أن تمنح قوةً ونفوذاً أكبر في بعض المناطق دون المشاركة في الانتخابات الوطنية التي يمكن أن تحصل. وكانت رؤيته أنَّ أيّ حل لا يكون بالمستوى الوطني سيكون جولة أخرى للصراع الحاد. الواضح تماماً أنَّ هذا الحل الذي تمّ طرحه لا يلقى قبولاً سياسياً، حيث عارض عدد كبير من السياسيين الأفغان، بمن فيهم الرئيس السابق حامد كرزاي والرئيس عبد الله عبد الله هذا الاقتراح. وهو رفضٌ معقول لأنَّ أشرف غني استبعد باقي القيادات من المحادثات، ومن ثم فإنَّ هذا الحل الوحيد الذي يسمح بإرسال ممثلين للتحاور مع قادة حركة (طالبان)، رافضاً أن يكون لعبد الله عبد الله أي مشاركين في المباحثات، ومن ثم هذا الحل لم يكن نتيجةً واضحةً لتوافق سياسي. وفي المقابل يأمل عبد الله عبد الله إلى جانب داعميه التفاوض مع حركة (طالبان) حول صفقة كبيرة مغلقة وتجاوز الرئيس أشرف غني. أما آخرون فقد رأوا أنه قد يقوم بإطاحة أشرف غني وتشكيل حكومة مشتركة مع حركة (طالبان).
الأمر الثاني، هو أنَّ حركة (طالبان) رفضت فوز أشرف غني، وأعلنت لجنة الانتخابات فوز الرئيس أشرف غني، وأن هذا غير قانوني ولا دستوري، وفي بيان رسمي أكَّدت حركة (طالبان) أنَّ أيّ انتخابات في ظل الاحتلال الأمريكي والأطلسي لا يمكن أن تُسهم في تسوية الصراع المحتدم في أفغانستان. كما أنَّ هذا الفوز ترك البلاد منقسمةً سياسياً على بعضها، خاصة وأنّ تلك الانقسامات بين القادة السياسيين قائمة على أسسٍ عرقية، وهذا ما حفَّز كل جماعة عرقية لتأييد من ينتمي إليها، فكان إعلان العديد من الأحزاب مثل حزب الوحدة (من الهزارة)، والجماعة الإسلامية (أغلبها من الطاجيك) وجونبيش (من الأوزبك) دعمهم لعبد الله عبد الله، تلك الانقسامات ستساهم بشكلٍ كبير في تعزيز مكانة حركة (طالبان) وتعاظم قوتها أكثر من أي وقتٍ مضى. فهي كانت قد توصلت إلى هذا الاتفاق مع الولايات المتحدة من موقع الشعور بالقوة والقدرة، مقارنةً مع ما تملكه الحكومة الأفغانية وقيادتها السياسية، وهذا يمكِّنها من رفض بنود الاتفاق بسهولة، أو تكون طرفاً قوياً يفرض شروطه دون اعتراض، ويجب أن توافق جميع الأطراف عليها، لكننا نرى أنَّ أفغانستان ستبقى ساحة للمعارك المحتدمة والمنافسات الإقليمية.