“الكورونا” وثقافة القطيع       

واحدة من اغرب وابشع الصور التي اظهرها “كورونا” في العالم بل وحتى قبل أن يظهر على الأقل لدينا، حب الناس للإشاعة وسهولة استخفافهم بالتعاطي معها، رغبتهم العارمة في الظهور والتقليد الأعمى ولو على حساب مشاعرهم هم قبل غيرهم، اشتغالهم على ركوب أي موجة سائدة ولو كانت موجة مميتة، رغبتهم المفرطة السادية في البلاء، انتظارهم وقوعه بفارغ الصبر، والعمل على استدراجه لقصد أو دونه، فمنهم من ينقل دون تفكير بما يقع عليه في الصفحات الزرقاء، ومنهم من يدرك تماما ماذا يفعل، وأي سوء تجره فعلته المُبيت لها فهذا ما يريده!   إلا أن هذا السلوك العشوائي في التعامل مع المعلومة والتأكد منها قبل جعلها “علكة” بين الجميع تقريبا، عادة ما واجهه في التاريخ رأي متزن، واع، مدرك، وهذا الرأي غالبا ما يصنعه أهل الفكر بأنواعه، فالترهات الشعبوية لا تُقابل بالتجاهل، بل بتقديم ما يحجمها ويكشف خبثها وغباءها في آن، ولأن مفهوم “قادة الرأي” ليس مفهوما مصطنعا كما بات حاله اليوم، بل إن من يمكن وصفهم بهذا الوصف اليوم، هم في أسوأ واقع يمكن تخيله، مغلوبين على أمرهم في زمن باتت فيه العلاقات العامة والبزنس من تحت الطاولة هي من ترفع من شأن الجاهل وتحط من قدر الحكمة، وكما تساوى البطل مع الجبان عند اختراع المسدس، تساوى العالم والجاهل بعد اختراع الشبكة العنكبوتية ووسائطها، وهكذا ضاعت “الطاسة”، صوت العقل لم يعد مجديا، لقد زاحمته ملايين الأصوات الببغائية، وهذا ليس بالشأن الجديد على الشعوب عموما، لكنه لم يكن يوما بهذه الفداحة!

هذا يفسر ولو جزئيا مجانية وسائل التواصل الاجتماعي المصنوعة في أقبية أجهزة المخابرات الأمريكية تحديدا، تلك التي بزغ نجمها وسادت بين المجتمعات بشكل سريع ومفاجئ، بالتزامن مع أكبر خديعة تعرضت لها الشعوب العربية في التاريخ، لقد لعبت الدور الأقذر في التحريض على الخراب والقتل، ولم يعد العدو مضطرا للنزول بجيشه “الهوليودي” إلى الحرب، فلقد استطاع وعبر ما ابتكره من وسائل حربية جديدة أو ما يمكن وصفه بـ: “حرب الجيل الرابع” ومن أهم أدواتها “وسائل التواصل الاجتماعي”، من جعل أبناء وطن واحد أعداء لبعضهم البعض، ليتضح بأن كل ما رمت إليه “العولمة” تحت بريق شعاراتها الواهية من قبيل “العالم قرية كونية”، هو إسقاط مفهوم الدولة، مع خلخلة صريحة ومتفشية لقيمها ومنها “المواطنة” القيمة الأسمى والأهم لبقاء الأوطان، التي ذاب الكثير منها ولم يعد لها من وجود فعلي وحقيقي إلا بالاسم، وصرنا نسمع منذ بداية الألفية الثانية ومنذ بداية العقد الثاني منها بشكل خاص، بتركيبات لغوية مهولة مثل “الدولة الفاشلة”، تلك التي كل فرد فيها فاتح “على كيفو” كما يقال، سواء بالآداب أو الفنون، بالإعلام والفكر، بالاقتصاد والتعليم وغيرها، مع انقطاع تام للثقة بين الدولة ومواطنيها، ودون أي تفريق عند المواطن بين مفهوم الدولة والحكومة بمؤسساتها المختلفة، وهذا كان من أهم ما اشتغلت عليه “العولمة” ومفرداتها بالعالم، افقدت الشعوب خصوصيتها وهويتها، تلك التي تمثلها الدولة، والدولة فقط.

ولكن ما علاقة “كورونا” بالموضوع؟ “كورونا” اليوم هو “التريند” العالمي المتوهج، وسائل الاعلام سواء الأشهر والأهم، وحتى تلك التي لم يُسمع بها سابقا، والتي نستطيع وصفها بـ “الصفراء” -على غرار “الصحافة الصفراء-قفزت وسبقت “الكورونا” بعد أن امتطته بقصد الشهرة والكسب، وعنها صار الناس يتداولون أخبارهم المشؤومة بشكل خاص، تلك التي يريدون ويعيدون تصديرها بحيث تبقى طازجة ومتجددة، ولم يعد للمصداقية والمسؤولية في شأن جسيم كهذا أي وجود إلا ما رحم ربي، وكان ما بينه هذا الحال مهولا، مجتمعات سطحية لا خصوصية تميزها، وشعوب برمتها يتم التلاعب بوعيها والعمل على ضربه، حتى تكاد الهزيمة تصبح نصرا والعكس صحيح!

اليوم وبعد خلو المشهد العام والعربي بشكل خاص من “قادة الرأي”، القادرين من خلال منتجهم الفكري في مختلف ميادين الفكر المشتبكة مع بعضها البعض، على التأثير في المجتمعات وضبط منسوب الجهل فيها وما له من نتائج كارثية عليها، بتحجيمه وإقصاء سدنته عن المشهد العام، تنتعش الخرافة والسطحية، وتسود الحماقة والسخف، فمن الطبيعي أن يمتلئ الفراغ، وعندما تخلو البضاعة الجيدة من السوق، تنتعش الرخيصة وتصبح رائجة، وهذا ليس مثالا ماديا بحتا، بل هو توصيف لحال مشين بوصف بسيط يصل للجميع.

يقول “ألان دونو” في كتابه الصادر مؤخرا “نظام التفاهة”: أن التافهين قد حسموا المعركة من دون اجتياح الباستيل –في إشارة إلى الثورة الفرنسية-ولا حريق الرايخستاغ في إشارة إلى صعود هتلر في ألمانيا-ولا رصاصة واحدة من معركة “الفجر” أيضا في إشارة إلى المعركة الأسطورية بين بونتا وبراكمار، ربح التافهون الحرب وسيطروا على عالمنا وباتوا يحكمونه”.

اليوم التفاهة تفوز على أي فكر، ولسوف تحصد كلمة بلا معنى قالتها إحدى (نجمات) الميديا أو (نجومها)، ذهول وعقول مجتمعات بأكملها، ولو وقف في كفة الميزان الأخرى –في حال صحت المقارنة-كل المفكرون والكتاب والشعراء والفلاسفة، منذ عهد آدم وما يعنيه رمزيا قتل قابيل لهابيل من انتقال من المرحلة الرعوية إلى المرحلة الزراعية، حتى اللحظة الراهنة!

يعود “دونو” لإعطاء نصائح حيال “نظام التفاهة” السائد وكيف يمكن التعايش معه، يقول: “لا لزوم لهذه الكتب المعقدة. لا تكن فخوراً ولا روحانياً. فهذا يظهرك متكبراً. لا تقدم أي فكرة جيدة. فستكون عرضة للنقد. لا تحمل نظرة ثاقبة، وسع مقلتيك، أرخ شفتيك، فكر بميوعة وكن كذلك. عليك أن تكون قابلاً للتعليب. لقد تغير الزمن”.

تمّام علي بركات